شريط البيبي سي

الأحد، 17 أبريل 2011

يوميات ثورة الصَّبَّــار ...! ( الحلقة الخامسه ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

بعد إلقاء مبارك لخطابه الأول في الساعة الأولى من يوم 29 يناير 2011 صارت الجموع في غاية الحماس ، وفي غاية الغضب ، لقد كان خطاب مبارك يمثل قمة الصلف والغرور ، مما جعل كل مواطن مصري يشعر بإهانة موجهة له شخصيا .الأيام التالية كانت تجمع بين الفرحة بالتجمع الضخم ، والحيرة في الخطوة التالية .سئلت مئات المرات من أشخاص لا أعرفهم عما ينبغي أن نفعله ، وكنت أجيب بأمرين الأول أننا باعتصامنا في الميدان نشكل قوة ضغط كبيرة جدا لا يمكن تجاهلها .الثاني أن الناس هي التي صنعت الثورة ، وسوف يحافظون عليها ، أي أن القرار في النهاية سيكون لهذه الجموع .كنت قلقا ، ولكني كنت متفائلا جدا ، كنت أرى ما بشّرْتُ به طوال شهور وشهور يتحقق ، يتحقق بشكل أعظم وأجمل مما تخيلته !لقد كانت آرائي المبشرة بهذه الثورة مثار سخرية حتى بين النخبة !أذكر أنني كتبت مقالة بعد انتخابات 2010 ، وكان عنوانها : (بل قد تضاعف تفاؤلي) ، وكتبت فيها - استكمالا لمقالات أخرى كانت تبشر بقرب النهاية - وأذكر أن صديقا عزيزا قد سخر مني علنا (من خلال الفيس بوك) ، مما اضطرني لحذف تعليقه على المقالة ، وقد سخر بشكل سخيف مع أنه أستاذ جامعي .أنا لا أذكر هذا الكلام الآن لكي أضيف سبقا لشخصي الضعيف ، بقدر ما أذكره لكي يتعلم الناس أنه لا بد من قليل من التفاؤل ، ولا بد أن نتعلم أن ننظر إلى بعض الآراء (غير الواقعية) بشيء من الرحمة ، لكي لا يهدر المجتمع طاقته الفكرية ، وقدرته على التجدد ، وذلك يكون بوأد الخلاف في الرأي ، فيصبح الناس مجتمعين على رأي واحد حتى لو كان خطأ .استمر الاعتصام ، وطائرات الهيلوكوبتر تحلق فوقنا صباح مساء ، تصور وترصد وترسل التقارير .وفي يوم الأحد 30 يناير ، حلق فوق الميدان تشكيل (إف 16) مكون من طائرتين ، وكان تحليقا منخفضا ، وقد تسبب ذلك في حالة من القلق بين المتظاهرين من شدة المفاجأة ، فبدأ المتظاهرون بالهتاف في شكل تلقائي : (حسني اتجنن !) .كانت الأخبار السيئة المتعلقة بالانفلات الأمني تقلق المتظاهرين بشكل جنوني ، وقد كان المخطط جهنميا ، فقد أراد الطغاة مقايضة الأمن بالحرية ، وكذلك أن يشغلوا هؤلاء المتظاهرين بالدفاع عن منازلهم .لكن الذي لم يكن في حسبانهم أن هذا الشباب المصري العظيم سيرتب نفسه بحيث يحرس البيوت في الليل ، ويرابط في الميدان صباحا ، وكذلك أن يتم ترتيب الأمور (بارتجال رائع) بحيث يظل الميدان ممتلئا دائما ، فكأن الشعب المصري قد قام بعمل ورديّات تضمن حراسة المنازل والممتلكات ، وتضمن كذلك استمرار الاعتصام .من أهم ما حدث هذا اليوم (الأحد 30 يناير) أن الصحف المستقلة بدأت برفع سقفها ، وبدأت العناوين الرئيسية تبدو أكثر تحررا مما عهدت من قبل .فالمصري اليوم صدرت صفحتها الأولى بصورة ضخمة لأحد ضباط الجيش الذين انضموا للثورة وهو محمول على أعناق الثوار ، وفوق ذلك عنوان : (مؤامرة من "الأمن" لدعم سيناريو الفوضى) ...!وجاءت صحيفة الشروق بعنوان : (الشعب يتقدم ومبارك يبدأ التراجع) !كانت العناوين زاعقة ، وكان من الواضح أن الصحف المصرية قد اتعظت بما حدث في تونس ، فبعض الصحف هناك صدرت تمجد في زين العابدين حتى آخر لحظة ، ثم فجأة أصبحت العناوين : (إرادة الشعب تنتصر) ...!أما صحافة مماليك الدولة ، فكانت عناوينها تبعث على الضحك أو الغثيان ، ويكفي أن نعرف أن الأهرام صدرت في هذا اليوم تتحدث في صفحتها الأولى عن مظاهرات مكونة من عدة مئات يقودها مصطفى بكري ، ومحمد عبدالقدوس ...!كما لم يخل الخبر من تلميحات بالتدخل الخارجي ، والاتهام بأعمال السلب والنهب ، من خلال ذكر ما حصل في (أركاديا مول) ، وغير ذلك من طرق العرض الرخيصة التي تؤلب الرأي العام ضد الثورة .في هذه الأيام ، أعني الأيام الأولى من الأسبوع الأول من الاعتصام بدأت تظهر (أخلاق الثورة) ، أو (أخلاق الميدان) ...!وفي هذا الموضوع من الممكن أن نكتب مئات المواقف ، ومئات النوادر ، وأن نذكر آلاف الشرفاء .لقد أصبح الجميع يشعر بانتماء لهذا المكان !وهو انتماء من نوع خاص ، أنا لم أعرف مثل هذا الانتماء من قبل .إنه أشبه ما يكون بانتماء الأطفال لحضاناتهم ...!انتماء بدائي غيور ، وبرغم ذلك حدثت خلال فترة الاعتصام فتن بين المعتصمين لا يمكن تخيلها ...!كنا طوال اليوم نرى شبابا وشابات يوزعون ما تيسر من الطعام ، وآخرين يجمعون القمامة .لا يمكن أن تجلس ربع ساعة في أي مكان في الميدان تقريبا بدون أن يمر عليك شخص يسألك عن أي قمامة تريد التخلص منها ، أو بدون أن يدعوك أحد لقطعة (صميت) ، أو بضع تمرات .جلسنا في الميدان حوالي أسبوعين متصلين بدون شكوى تحرش واحدة ، لم نسمع شخصا واحدا يستغيث بسبب سرقة هاتف محمول أو أي غرض كان .كان الناس يتعاملون مع بعضهم البعض بكرم ونبل جديدين على الشعب المصري ، أو على الأقل جديدين على هذا الجيل .أحد أصدقائي (من غير المقيمين في الميدان) كان يمشي معي في الميدان ، وعطش ، فأراد شراء زجاجة مياه معدنية من بائع يقف في الطريق ، فأخذ الزجاجة ، ثم سأل البائع : بكم ؟
فأجابه البائع : لو معاك يبقى 2 جنيه ، لو ما معاكش خدها وامشي !أحد الأصدقاء كان يمشي في الميدان ويحاول أن يجد من يبيع شيئا يؤكل ، وكلما سأل عن أي مكان يبيع طعاما وجد الناس يصرون على دعوته على ما عندهم من طعام !لم تحدث أي مشاجرة تذكر بين الناس ، برغم الزحام ، وبرغم الضغوط التي يتعرض لها المعتصمون .لم يحدث أي مشاجرات إلا بعد أن نجح الأمن في زرع الفتنة بين المعتصمين ، وذلك في مرحلة من مراحل الاعتصام ، حين نجح في إدخال بعض أنصار الحزب الوطني لمحاولة تثبيط العزائم ، وسأذكر هذا لاحقا .المكان الوحيد الذي كان يخضع لأخلاق ما قبل الثورة ، هو المنصات الإعلامية الموجودة في الميدان !كانت شهوة الظهور في هذه الأماكن تضخ طاقة سلبية في المكان ، حتى أنني زهدت في كثير من الفعاليات التي دعيت إليها ، واعتذرت عن المشاركة في كثير من الندوات ، وحين حاول بعض الشباب أن يدفعوا بي لكي أكون مسؤولا عن إحدى هذه الإذاعات تهربت منهم .أذكر أنني بعد إلحاح وضغط استجبت لإحدى الإذاعات في الميدان ، وذهبت في الموعد المحدد ، فوجدت فوضى عارمة ، ووجدت عشرات المتسلقين الذين يرغبون في الكلام ، ووجدت شهوة حب الظهور تكاد تطفيء ما أشعر به من مشاعر (المدينة الفاضلة) ، مما دفعني لافتعال معركة لكي أهرب من هذا الجو !وبالفعل ، أصررت على النزول من على المنصة ، والانصراف ، والسبب أن مزاجي قد تعكر برؤية هذا التكالب على الميكروفون ، فأصبحت غير مهيء نفسيا لإنشاد الشعر ، كان الشخص الذي يدعوني إلى المنصة رجل محترم اسمه الأستاذ حسين الزعويني ، وكنت أخجل منه (هو ورفاقه) من شدة أدبه ، ولكن الاستفزاز الذي كان موجودا عند المنصة فاق قدرتي على الصبر .بسبب هذا الخلق السيء الذي كان عند المنصات لم ألق شعرا في الميدان إلا قليلا جدا ، برغم دفع من حولي لي لكي ألقي ، فكانت قصائدي تلقى مسجلة في الميدان ، برغم وجودي بشحمي ولحمي ، واعتذرت عن أغلب الدعوات ، وحين قبلت كنت دائما أختصر ، فألقي لعدة دقائق ثم أنصرف !وهنا لا بد من شهادة حق ، وهي أن الإذاعة الرئيسية كانت تحت إدارة الإخوان المسلمين ، وبرغم أنهم لم يتمكنوا من تنظيم هذه الإذاعة كما ينبغي إلا أنني أشهد بأنهم لم يحتكروا الحديث لأنفسهم ، أو حتى للتيار الإسلامي لوحده ، بل كانت الإذاعة ممثلة لكل القوى التي في الميدان ، بل لكل من يملك صفاقة كافية للإصرار على الحديث .وقد كان أداء الإخوان طوال فترة الاعتصام ممتازا ، فقد أدوا واجبا عظيما في (لجنة النظام) ، بدون أن يرفعوا شعاراتهم ، وبدون أن يحتكروا العمل في هذه اللجنة ، فكانت لجنة النظام مفتوحة لكل المتطوعين .في نفس هذه الفترة بدأت بعض الضغوط على المعتصمين ، وتمثلت في منع دخول الماء والغذاء والدواء إلى الميدان .وبدأت عشرات القصص تتوالى عن أناس حاولوا إدخال المؤن إلى الميدان فتمت مصادرتها من الجيش وإلقاؤها في النيل .كان من الواضح أن لأمن الدولة دخلا في هذا الأمر ، فحسب روايات الشهود كانت القوات التي توقف الناشطين قوات غير نظامية مجهولة الهوية ، وهناك بعض الشهادات التي تؤكد أن الشرطة العسكرية قد صادرت بعض المؤن ، ولكن يبدو أن ذلك قد تم بتوجيهات من أمن الدولة أيضا .في هذه اللحظة بدأت أشعر بشعور نبتة الصَّبَّار الواقفة في حر الصحراء ، تلك النبتة الرائعة الجميلة التي تقف في الحر لسنوات وسنوات ، صامدة حتى إذا انعدم الماء ...!إذن ... نحن الصَّبَّار ، وسنصمد هنا برغم كل المنع والقمع ...!كنت شديد التشاؤم حيال هذا الأمر ، وكنت أخشى أن يقوموا بتجويعنا في الميدان بهذا الشكل ، وبدأ الحديث عن (شِعْبِ أبي طالب) يتكرر ، ولكن الظن خاب بفضل الله أولا ، وبفضل تحايل الشباب على كل ما قام به من يحاصرنا ثانيا ، فقد تفنن الشباب في طرق إدخال المؤن إلى الميدان .في هذا اليوم هاتفني زوج أختي الدكتورهشام المرسي وهو طبيب مقيم في قطر ، وأخبرني أنه هنا ليشارك في مليونية يوم الثلاثاء ، وقد جاء خصيصا ليشارك في الثورة ، وأخبرني أنه في الميدان .قلت له نلتقي غدا بإذن الله ، ولكن لم يحدث ، لأسباب سأسردها بعد قليل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق