شريط البيبي سي

السبت، 30 أبريل 2011

بالروح بالدم نفديك يا زعيم!!



بقلم عمرو الليثى ٢٩/ ٤/ ٢٠١١
ما مواصفات رئيس مصر القادم؟.. سؤال يلح على الجميع، خاصة بعد أن أعلن عدد لا بأس به من الشخصيات السياسية والعامة والعسكرية عن نيتهم الترشح لرئاسة الجمهورية فى الانتخابات المزمع عقدها خلال الشهور القليلة المقبلة..

وأظن أن تجربتنا السيئة مع الرئيس السابق الذى اكتسب شخصية الفرعون لطول بقائه فى السلطة جعل الناس تفكر بإمعان فى الشروط التى يجب أن تتوافر فى رئيس مصر القادم حتى لا نكرر مأساة أخرى عشناها على مدار ثلاثين عاماً.. وفى تقديرى المتواضع أن رئيس مصر القادم يجب أن يكون شخصية قوية لها القدرة على الإدارة والإنصات (ما يكونش أطرش) يسمع اللى يعجبه واللى ما يعجبهوش ما يسمعهوش!!

يجب أن يجيد لغات أجنبية فليس من المعقول أن رئيس الدولة لا يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية، يجب أن تكون لديه ثقافة إلكترونية، يجيد استخدام الكمبيوتر و( Black Bery ) و(I Bad).. فليس من المنطق أن رئيس مصر فى القرن الحادى والعشرين لا يجيد استخدام الكمبيوتر وعندما يتواجد فى أى محفل دولى لا يجيد استخدام الحاسب الآلى للرد على تساؤلات أو إعطاء معلومات.. يجب كذلك أن يتم عمل تحاليل وأشعات كاملة للرئيس القادم ليعرف الشعب تقريره الطبى بمنتهى الشفافية.. والأمراض المصاب بها ومدى تأثير تلك الأمراض على سلامة اتخاذه القرارات السياسية الصائبة.. كذلك الكشف عن مدى صحة قواه العقلية.. هل هو مدمن خمر أم لا.. أو يتعاطى أى نوع من المسكرات أو المخدرات..

بالإضافة إلى حتمية معرفة أمراضه النفسية والعصبية.. كذلك يجب أن يكون عمر الرئيس القادم لمصر مناسبا لتطلعات المرحلة.. فيجب ألا يكون كهلا لا يستطيع أن يتحرك وينزل ويذهب ويجرى ليتابع ما يتم على أرض مصر.. يجب أن يكون بسيطاً (ابن بلد) خرج من أعماق ريفه أو حضره.. يجب أن يكون متلامساً مع مشاكل المواطن المصرى.. يجب أن يذهب ليعيش ولو أياماً فى العشوائيات والقرى الفقيرة المهمشة ليشعر بمعاناة أهلها..

يجب أن يقضى يوماً فى مستشفى حكومى ليعرف لماذا يدخل المصريون المستشفيات الحكومية والتأمين الصحى ويخرجون منها أمواتاً.. أن يقف فى طابور العيش ليعرف معاناة رب الأسرة فى الحصول على رغيف نظيف ليسد جوع أهل بيته.. أو يذهب إلى صندوق المعاشات ليعرف معاناة كبار السن فى الحصول على ملاليم المعاشات.. عليه أن يشرب من مياه الحنفية فى القرى التى اختلط فيها الصرف الصحى مع مياه الشرب.. يجب أن يركب الأتوبيسات العامة والميكروباص ليعرف كم يعانى المواطن المصرى فى انتقاله من مكان لآخر.. يجب أن يدخل إلى أقسام الشرطة والمصالح الحكومية ليعرف معاناة الناس مع البيروقراطية.. وكم يدفع المواطن من رشاوى فى سبيل الحصول على حقوقهم المشروعة..

وهناك تصور لحياة الرئيس القادم الشخصية.. فيجب أن تُمنع تماماً زوجته من المشاركة فى المناسبات العامة أو غيرها أو أن يطلقوا عليها لقب سيدة مصر الأولى، أو أن يكون لزوجته أى نشاط خيرى أو صحى (حتى لا نعيد المسلسل الفاشل الذى حدث من قبل)، يجب أن تكون زوجة الرئيس مثل أى زوجة عادية لا محل لها من الإعراب فى مجال العمل السياسى أو حتى الاجتماعى.. يجب ألا يكون لأبناء الرئيس أى دور فى أى مجال وأن يتقدموا بإقرارات الذمة المالية الخاصة بهم عند تولى والدهم منصب الرئاسة.

والأهم لن نوافق على أن توضع صورة الرئيس الجديد فى أى مصلحة حكومية أو على أى شارع أو ميدان أو حتى إطلاق اسمه على أى مدرسة أو منشأة.. يجب ألا نسمع عن أغان تُغنى باسم الرئيس أو صفاته.. فالرئيس القادم لمصر هو موظف عند شعب مصر.. خادم الشعب وليس مستعبداً له.. وعلى من يرى فى نفسه أن الشروط السابقة تنطبق عليه.. فأهلاً به رئيساً لجمهورية مصر العربية الحرة بشعبها الأصيل.


رأي المدون :

أساندك في كل ما قلت ولكنك نسيت أهم شئ في الموضوع وهو إقرار الذمة الماليه للرئيس
يجب أن ينص في الدستور على أن يقدم هذا الاقرار شهريا ويعرض علينا من خلال مجلس الشعب هو وأفراد إسرته في جلسه علنيه
اللي إتلسعع من الشوربه ينفح في الزبادي

التاريخ يسجل

الثلاثاء، 19 أبريل 2011

صناع الفساد والعقد الاجتماعى الجديد

  بقلم   محمد بغدادى    ١٧/ ٤/ ٢٠١١

منذ ظهور «التاكسى» الأبيض الذى ساوى بينى وبين سائقى التاكسيات فى الحقوق والواجبات.. قررت أن أقلع تماما عن عادة قيادة السيارات.. وأصبحت من هواة ركوب «التاكسى الأبيض» حيث الدردشة مع السائقين متعة.. إذ تلمس بكلتا يديك نبض المواطن.. وليلة إلقاء القبض على جمال وعلاء مبارك.. والتحفظ على مبارك فى مستشفى شرم الشيخ.. وبدء التحقيق مع سوزان مبارك أمام إدارة الكسب غير المشروع.. فى هذه الليلة ركبت مع «سائق أبيض» واستمعنا معا إلى نشرة أخبار التاسعة.. وإذا به يقول لى:

«حد كان يصدق إن ولاد الريس يتقبض عليهم ويباتوا فى ليمان طرة.. ومبارك نفسه يتحبس ويتحقق معاه هو ومراته».. ثم نظر ناحيتى يتفحصنى بنظرة ذات مغزى، خوفا من أن أكون من فلول الحزب الوطنى.. أو لصوص المال العام.. أو أبطال موقعة الجمل..
 ثم قال لى: «دنيا ملهاش أمان يا بيه.. والزمن غدار، بس الناس ما بتتعظش.. بالك أنت بكرة لما يعملوا رئيس جديد يقعد شوية أيام كده يعامل ضميره ويشتغل بما يرضى الله.. وبعد شوية الكرسى بيغير وتلاقيه قلب على الشعب.. وإيده تطول على فلوس البلد.. ويتلموا عليه الحاشية والنصابين ويطلع فى الآخر حرامى ويمشى بفضيحة وزفة».
تأملت حديث السائق الأبيض.. وتذكرت نص سعدالله ونوس المسرحى الرائع «الملك هو الملك».. ورحت أسأل نفسى:
- هل كان لابد أن تراق كل هذه الدماء.. حتى يستيقظ ضمير حسنى مبارك ليتنحى.. أو يحاصر بكل هذا الغضب والسخط ليجبر على ترك مقعد الرئاسة؟
- هل كان لابد من مرور ثلاثين عاما من الذل والهوان، ونهب المال العام، وتجريف ثروات مصر حتى يسقط نظام حسنى مبارك.. ثلاثون عاما لم يشبع خلالها كل رجال الرئيس والرئيس وعائلته؟
كيف لا يرى الحاكم إلا نفسه.. ولا يستمع إلا لبطانته.. ولا يستجيب إلا لنزوات النفس الأمارة بالسوء؟
لا شك أنهم لا يبصرون ولا يسمعون ولا يحسون.. فإن أبصروا لا يرون الحقيقة.. وإن سمعوا فلا يستمعون إلا لشياطينهم.. وإن أحسوا لا يشعرون بظلمهم الواقع على العباد.. فهم بلا بصيرة.. والبصر غير البصيرة.. فلو كانت لديهم بصيرة نافذة لما وصلوا وأوصلونا إلى ما نحن فيه الآن..
ماذا فعلت لهم المليارات التى سلبوها.. جاء عسكرى مصرى غلبان وجردهم من كل متعلقاتهم الشخصية وهو يدفعهم داخل الزنازين.. ماذا فعلت لهم القصور والفيلات عندما أغلقت على كل منهم زنزانة مساحتها متر ونصف المتر فى مترين.. كيف صور لهم غرورهم وجبروتهم أن هذا الملك باق.. إن كنوز العالم كلها لا تساوى الآن لحظة ذل ومهانة مما يتعرضون له.. والآن هل يحاسبون أنفسهم ويشعرون بالندم على ما اقترفوه من جرائم جسيمة وخطايا لا تغتفر فى حق الشعب المصرى وفى حق مصر.. أم أن جبروت الغرور مازال يركبهم غير مصدقين أن ما يحدث هو الحقيقة بعينها.. أم أنهم يظنون أنه مجرد كابوس بشع سيزول بمجرد أن يستيقظوا من النوم.. ألم يدركوا أن العالم قد تغير..
وإذا عجزت الشعوب المغلوبة على أمرها عن الثورة صارت هناك قوى عظمى تستقوى بها الشعوب على حكامها الظالمين.. وأن هذه القوى هى نفسها التى كان هؤلاء الحكام ينسحقون أمامها، ويقدمون لها فروض الولاء والطاعة على حساب كرامة وعزة شعوبهم.. ثم تأتى اللحظة التى يصبح فيها هؤلاء الحكام منتهى الصلاحية.. وتبدأ هذه القوى العظمى فى بيعهم والبحث عن طرق مبتكرة للتخلص منهم.. إنها دروس فى التاريخ تتكرر دائما بأشكال وسيناريوهات مختلفة..
ولكن الحكام لا يتعظون أبدا على مر العصور.. إنهم مصابون بمرض لعين اسمه جنون العظمة.. ولا أمان لأى حاكم مهما خلصت نيته لبلاده وشعبه.. ولا ضمان للشعوب إلا الديمقراطية الحقيقية والدستور الذى يتحول إلى عقد اجتماعى بين الحاكم والمحكوم، يحدد شكل العلاقة بين الطرفين.. عقد يؤكد للحاكم أنه جاء بأمر تكليف من الشعب لصيانة حقوقه وحماية أراضيه..
عقد يحدد الخطوط الفاصلة بين الحقوق والواجبات.. ويفصل بين مصالح الحاكم الخاصة ومصالح المواطن والوطن العليا.. لأننا ونحن نبحث بين الوجوه المرشحة لرئاسة مصر عن رئيس جديد علينا أولا أن نضع دستورا حقيقيا للبلاد، ونصيغ عقدا اجتماعيا بيننا وبين الحاكم تحدد فيه كل الأمور بوضوح شديد، ويطبع من هذا العقد أصل و٩٠ مليون صورة، وتسلم للحاكم صورة ولكل مواطن صورة، ويتم إيداع الأصل فى المحكمة الدستورية العليا، ويكتب فيه شرطا أساسى ينص على: «أن أى إخلال بأى بند من بنود هذا العقد من جانب الحاكم أو المحكوم يصبح هذا العقد مفسوخا من تلقاء نفسه دون الرجوع للطرف الثانى، وعلى المتضرر اللجوء للقضاء»..
لأنه لا أمان لأى حاكم مهما بلغت نزاهته، فهناك دائما صناع الفساد ومفسدو الحاكم، الذين يلتفون حوله ويضعونه فى علبة من الحرير شديدة النعومة ويحيطونه بكل مباهج الدنيا.. ويصنعون منه نصف نبى ونصف إله.. فيحجبون عنه حقيقة كل شىء، ويصبح هو كالخاتم فى أصبعهم يصنعون به ما يشاءون.. إنهم صناع الفساد.. فلا يهم من سيكون رئيس مصر غدا، ولكن المهم كتابة العقد الاجتماعى الملزم للطرفين الحاكم والمحكوم وعلى الوسطاء (صناع الفاسد) أن يمتنعوا.. فلا نريد طرفا ثالثا فى هذا العقد حتى وإن كان زوجة رئيس الجمهورية أو أبناءه أو بطانته.. فالعقد شريعة المتعاقدين والسماسرة يمتنعون.
رآي المدون:
1- في رأيي أن الدستور الجديد لابد أن ينص فيه على إستحالة تغيير أي ماده من ماده إلا بإستفتاء شعبي نزيهحتى لا نبتلى بترزية القوانين
2- يجب أن ينص في الدستور على إستحالة عند انتهاء مدة رئيس الجمهوريه الا يتم ترشيح أحد من أقربائه حتى الدرجة الرابعه غلا بعد مرور فتره رئاسيه واحده
غيجب أن تكون الحرب القادمه على الفساد هي قفل الأبواب على صناع الفساد

3- يجب أن ينص الدستور الجديد على استحالة انتقال عضو مجلس الشع من حزب إلى آخر أو من مستقل إلى حزب بعد إجراء الانتخابات لأن ذلك يغير من صفته التي انتخب على اساسها وذلك تزوير لإرادة الناخب

التاريخ يسجل

الأحد، 17 أبريل 2011

يوميات ثورة الصَّبَّــار ...! ( الحلقة الرابعة ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

(هاهم يستخرجون أفضل ما في أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم) !
وكان من المشاهد المؤثرة التي شاهدتها رجل مع امرأته الحامل يخوضون المعركة مع المتظاهرين !
شاهدت أطفالا صغارا لا تتجاوز أعمارهم العاشرة يشاركون في المعركة ، وشاهدت سيدات كبيرات ، وفتيات صغيرات .
كانت الغالبية العظمى من الشباب الذين لم يتموا الثلاثين .
كنت أشعر أن البلد يولد من جديد ، كنت أشعر بطاقة حب غريبة !
بالرغم من اشتعال المعركة كان الجميع يواصلون الهتاف ، يسقط يسقط حسني مبارك ، وكلما شاهدوا شابا أو رجلا في شرفة من الشرفات يتفرج على المظاهرة يهتفون له وهم يؤشرون له بالنزول : ( إنزل إنزل خليك راجل ، حسني مبارك راحل راحل !) .
في هذه الأثناء أذن العصر ، وبدأ الناس بأداء الصلاة جماعات جماعات تحت الجسر ، وبرغم مرور كل هذا الوقت إلا أن ملابسي ما زالت تقطر ماء بسبب المدرعة اللعينة التي أغرقتني بمائها ، وبدأت أشعر بإجهاد شديد بسبب البرودة النسبية لذلك اليوم ، بالإضافة إلى الغازات والمجهود الذي يبذله المرء في الكر والفر .
انضممت إلى جماعة وصليت العصر ، ثم أكملت الجموع معركتها مع الشرطة .
لقد كان الوعي الذي يحرك المتظاهرين في غاية الروعة ، لدرجة أنني كنت أحمل في يدي حجرا على سبيل الاحتياط ، فوجدت من ينبهني إلى ضرورة التزام الشكل السلمي للتظاهرة .
وبقدر الوعي الذي كان في المتظاهرين ، بقدر ما كانت خسة رجال الشرطة ، فقد أحرقوا سيارة مدنية خاصة واقفة في الشارع عمدا أمام أعيننا ، وحين حاول البعض إطفاء الحريق أطلقوا نحوهم القنابل ، ثم أطلقوا عليهم الرصاص المطاطي .
وفي منتصف المعركة توقفت الشرطة عن إطلاق القنابل حتى أوحي إلينا أن المعركة انتهت ، ولهذا بدأ المتجمهرون بالاقتراب من الشرطة ، وبعد أن أصبحنا في مواجهتهم انهالت علينا القنابل من المدرعات ، ومن فوق الجسر ، وتسبب ذلك في إصابات كثيرة ، وأصبت حينها باختناق شديد ، وفقدت العصا التي غنمتها من الجندي ، ولولا مساعدة أحد الناشطين الذين يعرفونني (اسمه كريم الجهيني) لكنت قد فقدت وعيي .
بعدها بدا واضحا أن التشكيلات التي أمامنا من مكافحة الشغب قد باتت في وضع محرج ، فهي تتراجع ، وتقلل مما تقذفه علينا .
أنا شخصيا كان رأيي أن هناك أمرا ما قد جاء لهذه التشكيلات ، إما بالكف عن الضرب ، أو بالانسحاب ، والبعض رأى أن ذخيرتهم من القنابل قد فرغت !
وأنا الآن أظن أن الأمر مزيج من الاثنين .
بعد أن أفسحت لنا شرطة مكافحة الشغب طريقنا حدث مشهد في منتهى الروعة !
لقد بدأ المتظاهرون بالسلام على عساكر وضباط الشرطة ، بل إن البعض بدأ بتقبيلهم والحديث معهم بما يرفع معنوياتهم ، وبما يرفع الحرج عنهم ، كلام من نوعية : والله العظيم عاذرينكم ، عارفين إنه مالكوش ذنب ، منه لله اللي بيخليكوا تعملوا فينا كده !
وفي هذه اللحظة صعد بعض المتظاهرين أعلى الكوبري وبدؤوا برشق الشرطة بالحجارة ، فما كان من جموع المتظاهرين إلا أن تكتلت أمام تشكيلات الأمن المركزي كدرع بشري ، مع هتاف موحد يدوي في السماء : سلمية ، سلمية !
كان هناك بائع (سميط) في المظاهرة ، يبيع وهو يصرخ : (بنص جنيه) ، وحين انتصرت الجموع على الأمن رأيت هذا البائع يصرخ فرحا : (ببلاش ببلاش ببلاش) !
وبدأ الناس يأخذون بضاعته مجانا ، ويقبلون عليها من شدة التعب وهو راض بذلك ، فجاء شاب ثلاثيني سمح الوجه ، وقال للبائع : (بتتكلم جد؟)
فأجاب البائع بثقة : (أيوه ... اتفضل) ، فما كان من الشاب إلا أن أخرج من جيبه ورقة نقدية بمئتي جنيه ، وأعطاها للبائع في يده ، قائلا له : (برافو عليك) ...!
كان هذا الموقف وما شابهه إرهاصة لما سوف يحدث في الميدان ، أعني بذلك ظهور أخلاق جديدة ، وسلوك مختلف من المصريين ، بسبب اللحظة التاريخية التي يعيشونها .
وبهذا المشهد الرائع انتهت معركة ميدان الجيزة ، وتحركت الجموع إلى ميدان التحرير .
كنت في غاية الإجهاد ، لذلك مشيت مع الماشين حتى وصلت لسيارتي عند حديقة الحيوان ، وقررت أن أذهب إلى منزلي في السادس من أكتوبر لتبديل ملابسي .
استغرقت رحلتي إلى المنزل ما يزيد على ساعتين ، ذلك أن انسحاب الشرطة من الشوارع قد بدا واضحا ، لذلك كلما سلكت طريقا وجدته مغلقا إما بالمظاهرات وإما بالبلطجية !
كان الطريق الدائري (من جهة المنيب) مغلقا بالبلطجية ، وكانوا يمنعون السيارات من المرور مع التلويح بالعصي والسكاكين ، وكذلك كل الطرق التي تمر بمنطقة وسط البلد ، لذلك اضطررت للعودة والدخول من حي المنيل إلى منطقة سور مجرى العيون ثم عبر القلعة إلى أن ارتقيت كوبري 6 أكتوبر من طريق صلاح سالم ، ثم مشيت إلى أن وصلت إلى كوبري 15 مايو ، وعندها وجدت قوات مكافحة الشغب تتصدى لجموع قادمة من جهة شبرا ، وجموع أخرى قادمة من بولاق ، وجموع قادمة من الزمالك ، وكلها تريد الوصول إلى ميدان التحرير .
في هذه المنطقة وقفت ما يقرب من ربع ساعة ، ثم تجمعت بعض السيارات ففتح الأمن المركزي لنا الطريق وعبرنا بسرعة من خلال كوبر 15 مايو من فوق الزمالك حتى وصلت إلى المهندسين ، وفي ميدان سفنكس كانت هناك اشتباكات عنيفة جدا بين المتظاهرين والشرطة ، وكادت سيارتي تدمر بسبب القنابل والحجارة التي يلقيها الطرفان .
من أهم مميزات رحلتي الطويلة إلى المنزل أنني رأيت المظاهرات في أجزاء كثيرة من القاهرة ، خصوصا حين قطعت المسافة من شرق القاهرة عبر كوبري 6 أكتوبر إلى المهندسين ، ثم إلى السادس من أكتوبر .
رأيت مناطق مثل العباسية ، وغمرة ، ورمسيس ، وشارع الجلاء ، وبولاق ، وكورنيش شبرا ، والزمالك ... كل هذه المناطق كانت غاصة بالبشر .
ما رأيته بنفسي في هذا اليوم لا يقل عن نصف مليون متظاهر بأي حال من الأحوال .
طوال الطريق كنت أستمع إلى إحدى محطات الإذاعة الرسمية ، وعلى مدار ساعة ونصف كانت الإذاعة تحاول أن توضح أن الأمور مستقرة ، وأن الاحتجاجات محدودة جدا ، وأنها محصورة في محافظات قليلة .
هذه الرسالة الإعلامية المزورة جاءت على لسان محافظي الفيوم والغربية والسويس وقنا وأسيوط وغيرهم ، وبعض هؤلاء المحافظين بالغ في صفاقته حتى زعم أن الشرطة تحمي المتظاهرين ، وتؤمن مسيرتهم لا أكثر !
وعند الخامسة والنصف ، كانت نشرة الأخبار تعلن نزول القوات المسلحة بأمر من مبارك بصفته الحاكم العسكري ، وتفرض حظر التجول ، وغير ذلك من الإجراءات ، وذلك من أجل حماية ممتلكات الدولة والمواطنين من اعتداءات الغوغاء على الفنادق والبنوك وغيرها .
حينها قلت في نفسي : يا لغبائهم !
نفس الراديو كان يعلن منذ دقائق أن الأمور مستقرة ، وفجأة اتخذت كل هذه الإجراءات من أجل حماية البلد من الغوغاء ...!
كانت رائحة القنابل في كل مكان ، كلما فتحت شباك السيارة في أي مكان في القاهرة تقريبا تدخل هذه الرائحة الخانقة .
واصلت طريقي إلى منزلي ، ووصلت بعد المغرب ، فخلعت ملابسي وأنا منهك تماما ، وجسلت أمام محطات التلفزيون ، وأعلن التلفزيون المصري عن كلمة سيلقيها مبارك بعد قليل .
بعدها أعلن أن السيد فتحي سرور قد صرح بأن هناك قرارات مهمة سيتم الإعلان عنها !
كان انطباعي أن هناك صراعا في غرفة القيادة على كيفية إعلان خروج مبارك من الحكم !
لقد وصل المتظاهرون إلى مبنى التلفزيون !
والحرائق ممتدة بدء من أقسام الشرطة ، وصولا إلى المتحف المصري ، مرورا بمقر الحزب الوطني الحاكم !
لقد سقط مبارك ، ونحن في انتظار خطاب التنحي !
ما عرفناه بعد ذلك أن الوحدات التي جاءت إلى منطقة وسط البلد كانت من الحرس الجمهوري ، وكان الهدف منها أن تؤمن مبنى ماسبيرو ، وهذا ما حدث ، وتم إقناع المتظاهرين (وهم بالمئات) بالخروج من المبنى ، ولم يلتفت أحد من هؤلاء القادة إلى ما يحدث في المتحف المصري ، فأمنوا التلفزيون والإذاعة ، وتركوا المتحف ينهب ، وتركوه أيضا معرضا للاحتراق بسبب الحريق الذي شب في مبنى الحزب المجاور له !
جلست أتابع وأنا في انتظار خطاب التنحي ، وبعد منتصف الليل ، خرج علينا بوجهه العكر ، ليعلن بقاءه ، ويعلن تعيين نائب ، وإقالة الحكومة !
شعرت بصفعة على وجهي !
يا له من عتل غبي !
قلت في نفسي : (والله لن أبيت في منزلي هذه الليلة !) ، فقمت من فوري ، ولبست ملابسي مرة أخرى ، وتوجهت فورا إلى الميدان !
كانت الطريق سالكة ، فوصلت بسرعة كبيرة .
فوجئت حين وصلت بأن عدد الشباب المرابطين في الميدان قليل جدا ، أظنه لا يصل لخمسة آلاف شاب !
بدأت بجولة تفقدية للميدان ، فوجدت عددا كبيرا من الشباب يحرس المتحف المصري ، وقد قبضوا على بعض ضباط وأفراد الشرطة وهم يحاولون العبث به ، وكان ذلك استجابة لنداء المخرج السينمائي خالد يوسف عبر شاشات التلفاز .
الدبابات تمركزت على مداخل الميدان كلها ، ولا وجود للشرطة نهائيا ، اللهم إلا بعض سيارات الشرطة المحترقة ، وبعض الغنائم التي غنمها المتظاهرون ، كالخوذات والعصي !
ومن أغرب ما شاهدته مدرعة محترقة من مدرعات الجيش ، فسألت الشباب عنها ، فأخبروني أنها مدرعة تابعة للحرس الجمهوري ، وأن المتظاهرين أحرقوها لأنها كانت تنقل الذخيرة لقوات مكافحة الشغب !
وكذلك ضُبِطَتْ سيارة إسعاف تنقل ذخيرة لهم ، ولهذا تم منع أي سيارات تعبر من الميدان إلا بعد أن يتم تفتيشها .
لم أجد أي شخص معروف في الميدان ، ولم أجد أي قيادي من القيادات الشبابية أو التاريخية ، وكنت قلقا جدا ، لأن العدد كان قليلا ، ولو أراد النظام تفريغ الميدان ممن فيه الآن لتمكن من ذلك !
حين حاولت أن أنشيء إذاعة أخرى مثل التي أنشأتها في الخامس والعشرين من يناير لم أتمكن ، فجميع المتاجر مغلقة .
حاولت بعد ذلك (في صبيحة اليوم التالي) أن أشتري سماعات من بعض منظمي الأفراح ، ولكنهم بالغوا في الأسعار ، ولم يكن معي ما يكفي من المال ، وحين وجدت بعض الشباب أقاموا الإذاعة ارتحت ، وكذلك قام شباب الإخوان بعمل إذاعة صغيرة تأتي بها سيارة ، ثم تطورت هذه الإذاعة ، وأصبح لها الصوت الأعلى في الميدان .
كان ظني أن الناس قد تعبت من معركة البارحة ، وأنهم سيرتاحون ويبدلون ثيابهم ثم يعودون ، تماما كما فعلت أنا .
وهذا ما حدث ، إذ بدأت الجموع تتدفق على الميدان منذ الصباح الباكر ، فكان العدد يفوق الخمسين ألفا عند التاسعة صباحا ، وكان يفوق الربع مليون مع أذان الظهر .
إذن ... فقد بدأت معركة الصبر !
وللحديث بقية  ...

يوميات ثورة الصَّبَّــار ...! ( الحلقة الخامسه ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

بعد إلقاء مبارك لخطابه الأول في الساعة الأولى من يوم 29 يناير 2011 صارت الجموع في غاية الحماس ، وفي غاية الغضب ، لقد كان خطاب مبارك يمثل قمة الصلف والغرور ، مما جعل كل مواطن مصري يشعر بإهانة موجهة له شخصيا .الأيام التالية كانت تجمع بين الفرحة بالتجمع الضخم ، والحيرة في الخطوة التالية .سئلت مئات المرات من أشخاص لا أعرفهم عما ينبغي أن نفعله ، وكنت أجيب بأمرين الأول أننا باعتصامنا في الميدان نشكل قوة ضغط كبيرة جدا لا يمكن تجاهلها .الثاني أن الناس هي التي صنعت الثورة ، وسوف يحافظون عليها ، أي أن القرار في النهاية سيكون لهذه الجموع .كنت قلقا ، ولكني كنت متفائلا جدا ، كنت أرى ما بشّرْتُ به طوال شهور وشهور يتحقق ، يتحقق بشكل أعظم وأجمل مما تخيلته !لقد كانت آرائي المبشرة بهذه الثورة مثار سخرية حتى بين النخبة !أذكر أنني كتبت مقالة بعد انتخابات 2010 ، وكان عنوانها : (بل قد تضاعف تفاؤلي) ، وكتبت فيها - استكمالا لمقالات أخرى كانت تبشر بقرب النهاية - وأذكر أن صديقا عزيزا قد سخر مني علنا (من خلال الفيس بوك) ، مما اضطرني لحذف تعليقه على المقالة ، وقد سخر بشكل سخيف مع أنه أستاذ جامعي .أنا لا أذكر هذا الكلام الآن لكي أضيف سبقا لشخصي الضعيف ، بقدر ما أذكره لكي يتعلم الناس أنه لا بد من قليل من التفاؤل ، ولا بد أن نتعلم أن ننظر إلى بعض الآراء (غير الواقعية) بشيء من الرحمة ، لكي لا يهدر المجتمع طاقته الفكرية ، وقدرته على التجدد ، وذلك يكون بوأد الخلاف في الرأي ، فيصبح الناس مجتمعين على رأي واحد حتى لو كان خطأ .استمر الاعتصام ، وطائرات الهيلوكوبتر تحلق فوقنا صباح مساء ، تصور وترصد وترسل التقارير .وفي يوم الأحد 30 يناير ، حلق فوق الميدان تشكيل (إف 16) مكون من طائرتين ، وكان تحليقا منخفضا ، وقد تسبب ذلك في حالة من القلق بين المتظاهرين من شدة المفاجأة ، فبدأ المتظاهرون بالهتاف في شكل تلقائي : (حسني اتجنن !) .كانت الأخبار السيئة المتعلقة بالانفلات الأمني تقلق المتظاهرين بشكل جنوني ، وقد كان المخطط جهنميا ، فقد أراد الطغاة مقايضة الأمن بالحرية ، وكذلك أن يشغلوا هؤلاء المتظاهرين بالدفاع عن منازلهم .لكن الذي لم يكن في حسبانهم أن هذا الشباب المصري العظيم سيرتب نفسه بحيث يحرس البيوت في الليل ، ويرابط في الميدان صباحا ، وكذلك أن يتم ترتيب الأمور (بارتجال رائع) بحيث يظل الميدان ممتلئا دائما ، فكأن الشعب المصري قد قام بعمل ورديّات تضمن حراسة المنازل والممتلكات ، وتضمن كذلك استمرار الاعتصام .من أهم ما حدث هذا اليوم (الأحد 30 يناير) أن الصحف المستقلة بدأت برفع سقفها ، وبدأت العناوين الرئيسية تبدو أكثر تحررا مما عهدت من قبل .فالمصري اليوم صدرت صفحتها الأولى بصورة ضخمة لأحد ضباط الجيش الذين انضموا للثورة وهو محمول على أعناق الثوار ، وفوق ذلك عنوان : (مؤامرة من "الأمن" لدعم سيناريو الفوضى) ...!وجاءت صحيفة الشروق بعنوان : (الشعب يتقدم ومبارك يبدأ التراجع) !كانت العناوين زاعقة ، وكان من الواضح أن الصحف المصرية قد اتعظت بما حدث في تونس ، فبعض الصحف هناك صدرت تمجد في زين العابدين حتى آخر لحظة ، ثم فجأة أصبحت العناوين : (إرادة الشعب تنتصر) ...!أما صحافة مماليك الدولة ، فكانت عناوينها تبعث على الضحك أو الغثيان ، ويكفي أن نعرف أن الأهرام صدرت في هذا اليوم تتحدث في صفحتها الأولى عن مظاهرات مكونة من عدة مئات يقودها مصطفى بكري ، ومحمد عبدالقدوس ...!كما لم يخل الخبر من تلميحات بالتدخل الخارجي ، والاتهام بأعمال السلب والنهب ، من خلال ذكر ما حصل في (أركاديا مول) ، وغير ذلك من طرق العرض الرخيصة التي تؤلب الرأي العام ضد الثورة .في هذه الأيام ، أعني الأيام الأولى من الأسبوع الأول من الاعتصام بدأت تظهر (أخلاق الثورة) ، أو (أخلاق الميدان) ...!وفي هذا الموضوع من الممكن أن نكتب مئات المواقف ، ومئات النوادر ، وأن نذكر آلاف الشرفاء .لقد أصبح الجميع يشعر بانتماء لهذا المكان !وهو انتماء من نوع خاص ، أنا لم أعرف مثل هذا الانتماء من قبل .إنه أشبه ما يكون بانتماء الأطفال لحضاناتهم ...!انتماء بدائي غيور ، وبرغم ذلك حدثت خلال فترة الاعتصام فتن بين المعتصمين لا يمكن تخيلها ...!كنا طوال اليوم نرى شبابا وشابات يوزعون ما تيسر من الطعام ، وآخرين يجمعون القمامة .لا يمكن أن تجلس ربع ساعة في أي مكان في الميدان تقريبا بدون أن يمر عليك شخص يسألك عن أي قمامة تريد التخلص منها ، أو بدون أن يدعوك أحد لقطعة (صميت) ، أو بضع تمرات .جلسنا في الميدان حوالي أسبوعين متصلين بدون شكوى تحرش واحدة ، لم نسمع شخصا واحدا يستغيث بسبب سرقة هاتف محمول أو أي غرض كان .كان الناس يتعاملون مع بعضهم البعض بكرم ونبل جديدين على الشعب المصري ، أو على الأقل جديدين على هذا الجيل .أحد أصدقائي (من غير المقيمين في الميدان) كان يمشي معي في الميدان ، وعطش ، فأراد شراء زجاجة مياه معدنية من بائع يقف في الطريق ، فأخذ الزجاجة ، ثم سأل البائع : بكم ؟
فأجابه البائع : لو معاك يبقى 2 جنيه ، لو ما معاكش خدها وامشي !أحد الأصدقاء كان يمشي في الميدان ويحاول أن يجد من يبيع شيئا يؤكل ، وكلما سأل عن أي مكان يبيع طعاما وجد الناس يصرون على دعوته على ما عندهم من طعام !لم تحدث أي مشاجرة تذكر بين الناس ، برغم الزحام ، وبرغم الضغوط التي يتعرض لها المعتصمون .لم يحدث أي مشاجرات إلا بعد أن نجح الأمن في زرع الفتنة بين المعتصمين ، وذلك في مرحلة من مراحل الاعتصام ، حين نجح في إدخال بعض أنصار الحزب الوطني لمحاولة تثبيط العزائم ، وسأذكر هذا لاحقا .المكان الوحيد الذي كان يخضع لأخلاق ما قبل الثورة ، هو المنصات الإعلامية الموجودة في الميدان !كانت شهوة الظهور في هذه الأماكن تضخ طاقة سلبية في المكان ، حتى أنني زهدت في كثير من الفعاليات التي دعيت إليها ، واعتذرت عن المشاركة في كثير من الندوات ، وحين حاول بعض الشباب أن يدفعوا بي لكي أكون مسؤولا عن إحدى هذه الإذاعات تهربت منهم .أذكر أنني بعد إلحاح وضغط استجبت لإحدى الإذاعات في الميدان ، وذهبت في الموعد المحدد ، فوجدت فوضى عارمة ، ووجدت عشرات المتسلقين الذين يرغبون في الكلام ، ووجدت شهوة حب الظهور تكاد تطفيء ما أشعر به من مشاعر (المدينة الفاضلة) ، مما دفعني لافتعال معركة لكي أهرب من هذا الجو !وبالفعل ، أصررت على النزول من على المنصة ، والانصراف ، والسبب أن مزاجي قد تعكر برؤية هذا التكالب على الميكروفون ، فأصبحت غير مهيء نفسيا لإنشاد الشعر ، كان الشخص الذي يدعوني إلى المنصة رجل محترم اسمه الأستاذ حسين الزعويني ، وكنت أخجل منه (هو ورفاقه) من شدة أدبه ، ولكن الاستفزاز الذي كان موجودا عند المنصة فاق قدرتي على الصبر .بسبب هذا الخلق السيء الذي كان عند المنصات لم ألق شعرا في الميدان إلا قليلا جدا ، برغم دفع من حولي لي لكي ألقي ، فكانت قصائدي تلقى مسجلة في الميدان ، برغم وجودي بشحمي ولحمي ، واعتذرت عن أغلب الدعوات ، وحين قبلت كنت دائما أختصر ، فألقي لعدة دقائق ثم أنصرف !وهنا لا بد من شهادة حق ، وهي أن الإذاعة الرئيسية كانت تحت إدارة الإخوان المسلمين ، وبرغم أنهم لم يتمكنوا من تنظيم هذه الإذاعة كما ينبغي إلا أنني أشهد بأنهم لم يحتكروا الحديث لأنفسهم ، أو حتى للتيار الإسلامي لوحده ، بل كانت الإذاعة ممثلة لكل القوى التي في الميدان ، بل لكل من يملك صفاقة كافية للإصرار على الحديث .وقد كان أداء الإخوان طوال فترة الاعتصام ممتازا ، فقد أدوا واجبا عظيما في (لجنة النظام) ، بدون أن يرفعوا شعاراتهم ، وبدون أن يحتكروا العمل في هذه اللجنة ، فكانت لجنة النظام مفتوحة لكل المتطوعين .في نفس هذه الفترة بدأت بعض الضغوط على المعتصمين ، وتمثلت في منع دخول الماء والغذاء والدواء إلى الميدان .وبدأت عشرات القصص تتوالى عن أناس حاولوا إدخال المؤن إلى الميدان فتمت مصادرتها من الجيش وإلقاؤها في النيل .كان من الواضح أن لأمن الدولة دخلا في هذا الأمر ، فحسب روايات الشهود كانت القوات التي توقف الناشطين قوات غير نظامية مجهولة الهوية ، وهناك بعض الشهادات التي تؤكد أن الشرطة العسكرية قد صادرت بعض المؤن ، ولكن يبدو أن ذلك قد تم بتوجيهات من أمن الدولة أيضا .في هذه اللحظة بدأت أشعر بشعور نبتة الصَّبَّار الواقفة في حر الصحراء ، تلك النبتة الرائعة الجميلة التي تقف في الحر لسنوات وسنوات ، صامدة حتى إذا انعدم الماء ...!إذن ... نحن الصَّبَّار ، وسنصمد هنا برغم كل المنع والقمع ...!كنت شديد التشاؤم حيال هذا الأمر ، وكنت أخشى أن يقوموا بتجويعنا في الميدان بهذا الشكل ، وبدأ الحديث عن (شِعْبِ أبي طالب) يتكرر ، ولكن الظن خاب بفضل الله أولا ، وبفضل تحايل الشباب على كل ما قام به من يحاصرنا ثانيا ، فقد تفنن الشباب في طرق إدخال المؤن إلى الميدان .في هذا اليوم هاتفني زوج أختي الدكتورهشام المرسي وهو طبيب مقيم في قطر ، وأخبرني أنه هنا ليشارك في مليونية يوم الثلاثاء ، وقد جاء خصيصا ليشارك في الثورة ، وأخبرني أنه في الميدان .قلت له نلتقي غدا بإذن الله ، ولكن لم يحدث ، لأسباب سأسردها بعد قليل .

يوميات ثورة الصبار ...! ( الحلقة الثامنة ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

خرجت من الميدان من أجل التصوير فى إحدى الفضائيات، وحين حاولت دخول «التحرير» مرة أخرى وجدت مئات المأجورين من أنصار الرئيس السابق يحيطون بمداخل الميدان كلها، وظللت عدة ساعات أتنقل من مدخل إلى مدخل، وفى كل مدخل أجد معركة يتجمع فيها هؤلاء المأجورون، على أحد الذين يحاولون الدخول ويضربونه ضرباً عنيفاً، وفى مرة من المرات ضربوا أمامى شاباً ظل يقسم أنه ليس متجهاً للميدان أصلاً، وسال منه الدم بغزارة.

 

كنت قلقاً لأن وجهى معروف نسبياً، لذلك حرصت على أن أمشى بهدوء وبخفة، محاولاً إخفاء وجهى، بدون أن أتلثم كى لا أثير الشكوك، وكنت قلقاً من أن يعرفنى أحد هؤلاء فيتعرض لى بسوء.

 

تمكنت من الدخول، وأصبحت أشعر بشعور نبتة الصبَّار دائماً، لكن بدأت أشعر بأن هذه النبتة تحمل الزهور والثمار، وأنها تريد أن تعطى هذا الخير لمن يستحقه، لأرضها وشعبها، تماماً كما أعطت المهاجمين شوكها!

 

بدأت أحس بأننا سننتصر لا محالة، وأننا لابد أن نضع كل هذه الطاقات الرائعة فى طريق البناء، وفى هذا اليوم (الخميس 3 فبراير) بلغت صفاقة جريدة الأهرام أنها نشرت خبراً رئيسياً فى الصفحة الأولى، خلاصته أن الملايين خرجت لمبايعة مبارك وتأييده!

 

كان المانشيت مكتوباً باللون الأحمر، فتخيلته وكأنه كتب بدماء شهداء ليلة البارحة!

 

فى يوم الجمعة (جمعة الرحيل)، التى دعونا إليها فى البيان الذى تحدث عنه.. كان المشهد أكبر من الكلمات، كانت أخبار معركة الأمس، وصلت لجزء كبير من الناس خارج الميدان، وانعكس ذلك على عدد الحاضرين لأداء الصلاة فى الميدان.

 

ضخامة العدد جعلت بلطجية الحزب الوطنى، الذين يحاصروننا يختبأون كالجرذان، ودخل الناس إلى الميدان فى أمان تام، لا يمكن تقدير عدد الحاضرين، لكنه كان أكبر من الثلاثاء الماضى، أى أن العدد كان فى حدود ثلاثة ملايين شخص أو أكثر.

 

كنت أتمنى أن يكون الإمام رجل دين من المؤسسة الرسمية، كشيخ الأزهر، أو المفتى لكن للأسف، كان موقف المؤسسة الدينية عاراً عليها، ويشمل ذلك المؤسسات الإسلامية، والكنيسة الأرثوذكسية كذلك.

 

الميدان كان فيه الدكتور محمد سليم العوا، والشيخ صفوت حجازى، وبعض الشيوخ الأزهريين الشباب، وكان منظرهم بعمامة الأزهر يدخل البهجة لقلوب الناس بشكل لا يتصور، فكان المعتصمون يشعرون بشىء من البركة، بسبب وجودهم بيننا ليلاً ونهاراً.

 

صمتت جميع المؤسسات الدينية الرسمية، بل إن بعضها نطق بالزور، والتاريخ سيكتب أن العالم المسلم الوحيد، الذى نطق بالحق كان عالماً نعرفه جميعاً، فأفتى بوجوب المشاركة فى هذه الثورة، وبأن الاشتراك فى إزاحة هذا الطاغية واجب على كل مسلم، بل على كل مصرى، فجزاه الله خيراً عما قدم للأمة المصرية من موقعه، وأنا أعتقد أن مئات الآلاف نزلوا فى هذا اليوم فى محافظات مصر المختلفة بسبب كلام هذا الشيخ.

 

أين هذا من موقف شيوخ التيار السلفى الذين صوروا الثوار وكأنهم خوارج؟! بعد أن انتهت الخطبة، وبعد أن أدينا صلاة العصر جمعاً، وبعد صلاة الغائب على أرواح الشهداء، انطلقت الإذاعة بالسلام الجمهورى.. يا خالق الكون.. إنا نشهدك على صمودنا بحق ملايين الدموع التى انهالت من كل الحضور فى وقت واحد! يا خالق الكون.. إنا نشهدك على أننا لن نفرط فى دم الشهداء مهما فعلوا بنا!.. كانت لحظة لا توصف!

 

ملايين الباكين الصامدين، يرددون النشيد الوطنى مع حشرجات بكائهم!.. فى نفس هذا اليوم وجدتنى مطلوباً لاجتماع فى عيادة الدكتور عبدالجليل مصطفى، المنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير، بجوار الميدان فى باب اللوق.. منذ يوم الخامس والعشرين من يناير، وأنا أدعى لاجتماعات وأحاول التهرب من الحضور!

 

كنت أريد أن أبقى فى الميدان مع الناس، ولا رغبة لى فى أن أقوم بدور القائد، لم أتمكن من الهروب، وحضرت الاجتماع، وخلاصة ما دار فيه أن الدكتور محمد أبوالغار، عرض علينا أمراً مهماً، فقد اتصلت به الدكتورة مشيرة خطاب، وزيرة الأسرة والسكان، ونقلت طلباً من رئيس الوزراء أحمد شفيق، برغبته فى اللقاء اليوم، فقال لها إنه لا يستطيع قبول طلبه، إلا بعد أخذ موافقة ميدان التحرير، وطلب إعطاءه بعض الوقت.

 

اتصل الدكتور «أبوالغار» بالدكتور عبدالجليل مصطفى، وعقدنا اجتماعاً فى عيادته، وحضر الاجتماع معظم ممثلى القوى الوطنية للتغيير وكذلك ممثلو الشباب، وعرض موضوع مقابلة الفريق «شفيق»، وطلب الدكتور «أبوالغار» الإجابة عن ثلاثة أسئلة هى: هل هناك تفويض من الجميع بالذهاب، ومع من يذهب- لأنه لا يريد أن يذهب لوحده؟ ماذا يقول بالنيابة عن الجمعية؟

 

وتمت الموافقة بإجماع الحاضرين بمن فيهم الدكتور محمد البلتاجى، ممثل الإخوان على أن يتم اللقاء، واقترح أبوالغار أن أذهب أنا معه، وكنت- بمنتهى الأمانة- غير راغب فى الذهاب، لكنى لا أستطيع أن أقول لهذا الرجل بالذات (محمد أبوالغار) كلمة لا!

 

وافقت على الذهاب احتراماً لمقام هذا الرجل عندى، وكانت وجهة نظره أنه يريد وجهاً شاباً بصحبته، وكان كلامه منطقياً فى ضرورة أن يصحبه شاب، وتمت صياغة عدة طلبات، الأول عاجل وهو أن تضمن حكومته أمن الميدان، لأن بلطجية الحزب الوطنى كانوا مستمرين فى غاراتهم، وكذلك أن تعلن الحكومة أن حق التظاهر السلمى والاعتصام مكفول للمصريين، وهناك تكليف آخر، يتعلق بتوصيل رسالة صريحة تتعلق بشروط الجمعية الوطنية للتغيير للجلوس على طاولة التفاوض.

 

وكان الشرط الأول هو: رحيل حسنى مبارك، عن السلطة، إما رحيلاً مادياً، وإما معنوياً سياسياً من خلال تفعيل المادة 139 من الدستور، تلك المادة المتعلقة بتفويض الرئيس صلاحياته لمن يشاء من نوابه، والأمر الثانى هو: الاعتراف بشرعية الثورة، وذلك من خلال عدة إجراءات، من أهمها التعهد بعدم ملاحقة أى شخص شارك فى أحداث الثورة (من المدنيين والعسكريين)، والتعهد بمحاسبة من اعتدى أو حرض على الاعتداء على الثوار بأى شكل من أشكال الاعتداء، والتعهد بتحقيق مطالب الثورة، وخلال الاجتماع اتفق الجميع على ضرورة توصيل رسالة إلى قطبى النظام، الفريق أحمد شفيق، واللواء عمر سليمان، وهى شروط الجمعية لبدء التفاوض.

 

وفعلاً ذهبت مع الدكتور «أبوالغار»، بعد أن فوضنا الناس بتوصيل هذه الرسالة. وكنت حريصاً على أن أذهب بملابسى المتسخة، بـ«الكاب» الذى ألبسه، والبنطلون الجينز الذى تمزق من النوم على الرصيف، دون أى مراعاة لأى شكليات، ذهبت وكأننى ألبس زى الحرب!

 

وصلنا لمجلس الوزراء مع الوزيرة، واستقبلنا الفريق، وجلسنا معه ما يقرب من ساعة ونصف، وكان تفاعله مع المطلب المتعلق بالاعتراف بالثورة إيجابياً، وكان على استعداد لعمل كل ما نطلبه، أو لنقل بهذا حاول أن يوهمنا، وتعهد شفيق بتطهير المنطقة حول الميدان من البلطجية، وإعلان أن حق الاعتصام السلمى مكفول.

 

وبدأت مناقشة النقطة الخاصة برحيل «مبارك»، واستمر النقاش حوالى 80 دقيقة، ونحن مصرون على رحيله، وهو يقول إن فترة أربعة شهور، ليست طويلة بعد 30 عاماً من الحكم، وبعد أخذ وجذب لم نصل إلى نتيجة، وكلُ مصّر على رأيه، ويبدى حججه المختلفة، وقلنا إننا لسنا مفوضين بالتفاوض على رحيله، وإنما نحمل رسالة بأن رحيله مطلب رئيسى لا تفاوض فيه، وقلنا إننا مستعدون لأن يرحل فوراً على أن يكون ذلك بطريقة غير مهينة، وأن ذلك لو تم، فمن الممكن أن نحاول أن نعرض الأمر فى ميدان التحرير، وإذا وافق المعتصمون ستحل الأزمة.

 

وكان الدكتور «أبوالغار» حريصاً على توضيح فكرة أن الجالسين أمامه لا يملكان القرار، وكنت حريصاً على أن أفهم الرجل الجالس أمامى، وكان الحوار معه مُتعباً، وكان من الواضح أنه مكبل تماماً، وصلت معه لدرجة أن أقول له: حضرتك رجل دولة، وتعرف معنى أن ينزل 10 ملايين مواطن إلى الشارع، ففوجئت بأنه يرد فى منطقة أخرى، فأراه يقول: حسنى مبارك رجل طيب، وبطل أكتوبر، ولا يستحق منا هذه النهاية أبدا!.

 

 اضطررت فى نهاية الأمر أن أقول له: حسنى مبارك، الذى تتحدث عنه حكم البلد حكماً مطلقاً لمدة 30 عاماً متصلة، لم ينازعه فى الحكم أحد، ولم يخض حربا، ولم يبن شيئاً، ولم يقم سوى بالهدم المنظم لجميع مؤسسات الدولة، ولقيم الإنسان المصرى.. يا سيادة الفريق.. لقد أمسكنا بضباط شرطة يحاولون قتلنا بسنج ومطاوى، هذا ما فعله رئيسك بمصر، فسكت ولم ينطق..!

 

كان الرجل مهذبا جداً معنا، لكن كان من الواضح أنه «عبدالمأمور»، انصرفنا، وأبلغنا الجمعية بما جرى فى الحوار، فى نفس هذه الليلة هاتفنى الدكتور ضياء رشوان، وقال لى إن هناك اجتماعا سيعقد مع اللواء عمر سليمان، وأنه يريدنى أن أحضر، فطلبت منه بعض الوقت، وهاتفت الدكتور عبدالجليل مصطفى، وأخبرته بما أخبرنى به الدكتور «ضياء»، وعرضت عليه أن أذهب معه لأبلغ الرسالة لـ«سليمان» فقال لى: اذهب.

 

وفى وقت متأخر من نفس الليلة، اتصل بى الدكتور أحمد دراج، وقال لى إن الدكتور عبدالجليل مصطفى، يطلب منى عدم الذهاب للقاء «سليمان»، فقلت له: وأنا تحت أمر الدكتور «عبدالجليل»، وطلبت منه أن يتصل بالدكتور «ضياء» وأن يخبره بأننى لن أذهب، لكى يرفع الحرج عنى، وتعهد هو بأن يفعل ذلك، وأغلق الموضوع.

 

كان ذلك فى الساعات الأولى من يوم السبت 5 فبراير، وفى صباح اليوم التالى الأحد 6 فبراير، فوجئت باتصال من الدكتور مصطفى النجار، يطلبنى لاجتماع آخر عند الدكتور عبدالجليل مصطفى.

يوميات ثورة الصبار ...! ( الحلقة الثامنة ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

خرجت من الميدان من أجل التصوير فى إحدى الفضائيات، وحين حاولت دخول «التحرير» مرة أخرى وجدت مئات المأجورين من أنصار الرئيس السابق يحيطون بمداخل الميدان كلها، وظللت عدة ساعات أتنقل من مدخل إلى مدخل، وفى كل مدخل أجد معركة يتجمع فيها هؤلاء المأجورون، على أحد الذين يحاولون الدخول ويضربونه ضرباً عنيفاً، وفى مرة من المرات ضربوا أمامى شاباً ظل يقسم أنه ليس متجهاً للميدان أصلاً، وسال منه الدم بغزارة.

 

كنت قلقاً لأن وجهى معروف نسبياً، لذلك حرصت على أن أمشى بهدوء وبخفة، محاولاً إخفاء وجهى، بدون أن أتلثم كى لا أثير الشكوك، وكنت قلقاً من أن يعرفنى أحد هؤلاء فيتعرض لى بسوء.

 

تمكنت من الدخول، وأصبحت أشعر بشعور نبتة الصبَّار دائماً، لكن بدأت أشعر بأن هذه النبتة تحمل الزهور والثمار، وأنها تريد أن تعطى هذا الخير لمن يستحقه، لأرضها وشعبها، تماماً كما أعطت المهاجمين شوكها!

 

بدأت أحس بأننا سننتصر لا محالة، وأننا لابد أن نضع كل هذه الطاقات الرائعة فى طريق البناء، وفى هذا اليوم (الخميس 3 فبراير) بلغت صفاقة جريدة الأهرام أنها نشرت خبراً رئيسياً فى الصفحة الأولى، خلاصته أن الملايين خرجت لمبايعة مبارك وتأييده!

 

كان المانشيت مكتوباً باللون الأحمر، فتخيلته وكأنه كتب بدماء شهداء ليلة البارحة!

 

فى يوم الجمعة (جمعة الرحيل)، التى دعونا إليها فى البيان الذى تحدث عنه.. كان المشهد أكبر من الكلمات، كانت أخبار معركة الأمس، وصلت لجزء كبير من الناس خارج الميدان، وانعكس ذلك على عدد الحاضرين لأداء الصلاة فى الميدان.

 

ضخامة العدد جعلت بلطجية الحزب الوطنى، الذين يحاصروننا يختبأون كالجرذان، ودخل الناس إلى الميدان فى أمان تام، لا يمكن تقدير عدد الحاضرين، لكنه كان أكبر من الثلاثاء الماضى، أى أن العدد كان فى حدود ثلاثة ملايين شخص أو أكثر.

 

كنت أتمنى أن يكون الإمام رجل دين من المؤسسة الرسمية، كشيخ الأزهر، أو المفتى لكن للأسف، كان موقف المؤسسة الدينية عاراً عليها، ويشمل ذلك المؤسسات الإسلامية، والكنيسة الأرثوذكسية كذلك.

 

الميدان كان فيه الدكتور محمد سليم العوا، والشيخ صفوت حجازى، وبعض الشيوخ الأزهريين الشباب، وكان منظرهم بعمامة الأزهر يدخل البهجة لقلوب الناس بشكل لا يتصور، فكان المعتصمون يشعرون بشىء من البركة، بسبب وجودهم بيننا ليلاً ونهاراً.

 

صمتت جميع المؤسسات الدينية الرسمية، بل إن بعضها نطق بالزور، والتاريخ سيكتب أن العالم المسلم الوحيد، الذى نطق بالحق كان عالماً نعرفه جميعاً، فأفتى بوجوب المشاركة فى هذه الثورة، وبأن الاشتراك فى إزاحة هذا الطاغية واجب على كل مسلم، بل على كل مصرى، فجزاه الله خيراً عما قدم للأمة المصرية من موقعه، وأنا أعتقد أن مئات الآلاف نزلوا فى هذا اليوم فى محافظات مصر المختلفة بسبب كلام هذا الشيخ.

 

أين هذا من موقف شيوخ التيار السلفى الذين صوروا الثوار وكأنهم خوارج؟! بعد أن انتهت الخطبة، وبعد أن أدينا صلاة العصر جمعاً، وبعد صلاة الغائب على أرواح الشهداء، انطلقت الإذاعة بالسلام الجمهورى.. يا خالق الكون.. إنا نشهدك على صمودنا بحق ملايين الدموع التى انهالت من كل الحضور فى وقت واحد! يا خالق الكون.. إنا نشهدك على أننا لن نفرط فى دم الشهداء مهما فعلوا بنا!.. كانت لحظة لا توصف!

 

ملايين الباكين الصامدين، يرددون النشيد الوطنى مع حشرجات بكائهم!.. فى نفس هذا اليوم وجدتنى مطلوباً لاجتماع فى عيادة الدكتور عبدالجليل مصطفى، المنسق العام للجمعية الوطنية للتغيير، بجوار الميدان فى باب اللوق.. منذ يوم الخامس والعشرين من يناير، وأنا أدعى لاجتماعات وأحاول التهرب من الحضور!

 

كنت أريد أن أبقى فى الميدان مع الناس، ولا رغبة لى فى أن أقوم بدور القائد، لم أتمكن من الهروب، وحضرت الاجتماع، وخلاصة ما دار فيه أن الدكتور محمد أبوالغار، عرض علينا أمراً مهماً، فقد اتصلت به الدكتورة مشيرة خطاب، وزيرة الأسرة والسكان، ونقلت طلباً من رئيس الوزراء أحمد شفيق، برغبته فى اللقاء اليوم، فقال لها إنه لا يستطيع قبول طلبه، إلا بعد أخذ موافقة ميدان التحرير، وطلب إعطاءه بعض الوقت.

 

اتصل الدكتور «أبوالغار» بالدكتور عبدالجليل مصطفى، وعقدنا اجتماعاً فى عيادته، وحضر الاجتماع معظم ممثلى القوى الوطنية للتغيير وكذلك ممثلو الشباب، وعرض موضوع مقابلة الفريق «شفيق»، وطلب الدكتور «أبوالغار» الإجابة عن ثلاثة أسئلة هى: هل هناك تفويض من الجميع بالذهاب، ومع من يذهب- لأنه لا يريد أن يذهب لوحده؟ ماذا يقول بالنيابة عن الجمعية؟

 

وتمت الموافقة بإجماع الحاضرين بمن فيهم الدكتور محمد البلتاجى، ممثل الإخوان على أن يتم اللقاء، واقترح أبوالغار أن أذهب أنا معه، وكنت- بمنتهى الأمانة- غير راغب فى الذهاب، لكنى لا أستطيع أن أقول لهذا الرجل بالذات (محمد أبوالغار) كلمة لا!

 

وافقت على الذهاب احتراماً لمقام هذا الرجل عندى، وكانت وجهة نظره أنه يريد وجهاً شاباً بصحبته، وكان كلامه منطقياً فى ضرورة أن يصحبه شاب، وتمت صياغة عدة طلبات، الأول عاجل وهو أن تضمن حكومته أمن الميدان، لأن بلطجية الحزب الوطنى كانوا مستمرين فى غاراتهم، وكذلك أن تعلن الحكومة أن حق التظاهر السلمى والاعتصام مكفول للمصريين، وهناك تكليف آخر، يتعلق بتوصيل رسالة صريحة تتعلق بشروط الجمعية الوطنية للتغيير للجلوس على طاولة التفاوض.

 

وكان الشرط الأول هو: رحيل حسنى مبارك، عن السلطة، إما رحيلاً مادياً، وإما معنوياً سياسياً من خلال تفعيل المادة 139 من الدستور، تلك المادة المتعلقة بتفويض الرئيس صلاحياته لمن يشاء من نوابه، والأمر الثانى هو: الاعتراف بشرعية الثورة، وذلك من خلال عدة إجراءات، من أهمها التعهد بعدم ملاحقة أى شخص شارك فى أحداث الثورة (من المدنيين والعسكريين)، والتعهد بمحاسبة من اعتدى أو حرض على الاعتداء على الثوار بأى شكل من أشكال الاعتداء، والتعهد بتحقيق مطالب الثورة، وخلال الاجتماع اتفق الجميع على ضرورة توصيل رسالة إلى قطبى النظام، الفريق أحمد شفيق، واللواء عمر سليمان، وهى شروط الجمعية لبدء التفاوض.

 

وفعلاً ذهبت مع الدكتور «أبوالغار»، بعد أن فوضنا الناس بتوصيل هذه الرسالة. وكنت حريصاً على أن أذهب بملابسى المتسخة، بـ«الكاب» الذى ألبسه، والبنطلون الجينز الذى تمزق من النوم على الرصيف، دون أى مراعاة لأى شكليات، ذهبت وكأننى ألبس زى الحرب!

 

وصلنا لمجلس الوزراء مع الوزيرة، واستقبلنا الفريق، وجلسنا معه ما يقرب من ساعة ونصف، وكان تفاعله مع المطلب المتعلق بالاعتراف بالثورة إيجابياً، وكان على استعداد لعمل كل ما نطلبه، أو لنقل بهذا حاول أن يوهمنا، وتعهد شفيق بتطهير المنطقة حول الميدان من البلطجية، وإعلان أن حق الاعتصام السلمى مكفول.

 

وبدأت مناقشة النقطة الخاصة برحيل «مبارك»، واستمر النقاش حوالى 80 دقيقة، ونحن مصرون على رحيله، وهو يقول إن فترة أربعة شهور، ليست طويلة بعد 30 عاماً من الحكم، وبعد أخذ وجذب لم نصل إلى نتيجة، وكلُ مصّر على رأيه، ويبدى حججه المختلفة، وقلنا إننا لسنا مفوضين بالتفاوض على رحيله، وإنما نحمل رسالة بأن رحيله مطلب رئيسى لا تفاوض فيه، وقلنا إننا مستعدون لأن يرحل فوراً على أن يكون ذلك بطريقة غير مهينة، وأن ذلك لو تم، فمن الممكن أن نحاول أن نعرض الأمر فى ميدان التحرير، وإذا وافق المعتصمون ستحل الأزمة.

 

وكان الدكتور «أبوالغار» حريصاً على توضيح فكرة أن الجالسين أمامه لا يملكان القرار، وكنت حريصاً على أن أفهم الرجل الجالس أمامى، وكان الحوار معه مُتعباً، وكان من الواضح أنه مكبل تماماً، وصلت معه لدرجة أن أقول له: حضرتك رجل دولة، وتعرف معنى أن ينزل 10 ملايين مواطن إلى الشارع، ففوجئت بأنه يرد فى منطقة أخرى، فأراه يقول: حسنى مبارك رجل طيب، وبطل أكتوبر، ولا يستحق منا هذه النهاية أبدا!.

 

 اضطررت فى نهاية الأمر أن أقول له: حسنى مبارك، الذى تتحدث عنه حكم البلد حكماً مطلقاً لمدة 30 عاماً متصلة، لم ينازعه فى الحكم أحد، ولم يخض حربا، ولم يبن شيئاً، ولم يقم سوى بالهدم المنظم لجميع مؤسسات الدولة، ولقيم الإنسان المصرى.. يا سيادة الفريق.. لقد أمسكنا بضباط شرطة يحاولون قتلنا بسنج ومطاوى، هذا ما فعله رئيسك بمصر، فسكت ولم ينطق..!

 

كان الرجل مهذبا جداً معنا، لكن كان من الواضح أنه «عبدالمأمور»، انصرفنا، وأبلغنا الجمعية بما جرى فى الحوار، فى نفس هذه الليلة هاتفنى الدكتور ضياء رشوان، وقال لى إن هناك اجتماعا سيعقد مع اللواء عمر سليمان، وأنه يريدنى أن أحضر، فطلبت منه بعض الوقت، وهاتفت الدكتور عبدالجليل مصطفى، وأخبرته بما أخبرنى به الدكتور «ضياء»، وعرضت عليه أن أذهب معه لأبلغ الرسالة لـ«سليمان» فقال لى: اذهب.

 

وفى وقت متأخر من نفس الليلة، اتصل بى الدكتور أحمد دراج، وقال لى إن الدكتور عبدالجليل مصطفى، يطلب منى عدم الذهاب للقاء «سليمان»، فقلت له: وأنا تحت أمر الدكتور «عبدالجليل»، وطلبت منه أن يتصل بالدكتور «ضياء» وأن يخبره بأننى لن أذهب، لكى يرفع الحرج عنى، وتعهد هو بأن يفعل ذلك، وأغلق الموضوع.

 

كان ذلك فى الساعات الأولى من يوم السبت 5 فبراير، وفى صباح اليوم التالى الأحد 6 فبراير، فوجئت باتصال من الدكتور مصطفى النجار، يطلبنى لاجتماع آخر عند الدكتور عبدالجليل مصطفى.

يوميات ثورة الصبار ...!( الحلقة السابعة ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

المرة الأولى أعرف معنى صوت الرصاصة وهى تخترق بطن الشاب الواقف جوارى

كان هناك العديد من الجرحى الذين كان يتزايد عددهم كل ساعة، لذلك قام مئات من الشباب الأطباء بعمل مستشفى ميدانى صغير لعلاج الإصابات الصغيرة الناتجة عن الحجارة التى يلقيها المهاجمون.

وهذا المستشفى يقع بعد الصفوف الأولى بقليل، وهناك مستشفى آخر أكبر، وأكثر تنظيماً، كان بجوار مطعم (هارديز)، وقد أنقذ الأطباء العاملون فيه أرواحاً كثيرة.

مئات من الفتيات يحملن الماء والتمر والحجارة للشباب الذين يواجهون فى الصفوف الأولى.

باختصار.. كان هناك عشرات الآلاف – بدون أى مبالغة – مشتركون فى هذه المعركة الكبيرة.

وقد اخترع الشباب عشرات الحيل لحماية أنفسهم من هذا الهجوم.

حاولت أنا ومن معى من الناشطين المساهمة فى صد هذا الهجوم البربرى، فذهبنا فوق إحدى العمارات محملين بالطوب، حملناه فى عباءة كانت معى، وصعدنا عشرة أدوار كاملة، وكان ذلك أمراً مرهقاً جداً.

بعدها ذهبت لأرى أى الأماكن يحتاج إلى العون، فوجدت مجموعة تنادى المتطوعين عند مدخل شارع شامبليون.

وقفت مع هذه المجموعة، وكانت مجموعات البلطجية تقف على بعد مائتى متر تقريباً، وبيننا وبينهم دبابة وعدد من الجنود.

ظل المهاجمون يقتربون منا، ونحن على أهبة الاستعداد.

وبعد ما يقرب من ساعتين انسحبت الدبابة من بيننا، وانفتح الطريق أمامهم، ولكننا كنا نفوق عددهم، كان عددنا ضعف عددهم عدة مرات.

ولكنهم تقدموا نحونا، وبدأوا بالحديث معنا بشكل مستفز، فبعضهم يتحدث عن بيعة أبدية لمبارك، وبعضهم يتحدث عن (وقف الحال)، بسبب الاعتصام، وبعضهم يتحدث عن خراب بيته بسبب الانفلات الأمنى!

كان مشهداً غريباً جداً، وتكنيكاً أمنياً لم أره فى حياتى من قبل، فهم يحاولون إضعاف عزائمنا بهذا الأسلوب.

المهم أننى وجدت بقائى فى هذا المكان مضيعة للوقت، لأن العدد الذى يؤمنه كبير جداً، وعدد المهاجمين قليل، لذلك انصرفت، فوجدت المعركة باتجاه ميدان عبدالمنعم رياض.

كانت الساعة قد اقتربت من الواحدة بعد منتصف الليل، أى أننا صرنا فى الساعات الأولى من يوم الخميس الثالث من فبراير.

تقدمت، وكلما تقدمت أرى شباباً يهرول حاملاً مصاباً ما إلى المستشفى الميدانى، وأذكر جيداً أن بعض هذه الإصابات كانت شديدة جداً، فأحد المحمولين كانت تسيل دماؤه على الأرض بشكل غزير.

أذكر أيضاً أن أحد المحمولين كان يصرخ بشدة لأنه كان مصابا بحروق، وذلك بسبب قنابل المولوتوف التى ألقاها المهاجمون.

حين وصلت للصف الأول وجدت الوضع فى غاية الخطورة، المهاجمون فوق كوبرى السادس من أكتوبر، وبعضهم على الأرض، يلقون الحجارة والمولوتوف، وموقعهم فوق الكوبرى يعطيهم تفوقاً كبيراً.

الأمر الرائع أن عزيمة شباب الثورة كانت لا مثيل لها، فكانوا يلقون عليهم الحجارة بكل قوة، برغم بُعد المسافة.

كانوا يتقدمون بالسواتر الحديدية التى صنعوها خطوة خطوة، ومتراً متراً، واستمرت المعركة بهذا الشكل منذ العصر، حتى الفجر، كان الصراع على التحكم فى الميدان يتم شبراً بشبر!

فى هذه الأثناء كنت أقف فى الصف الأول، ولم يكن هناك من عمل لى سوى تحميس الشباب، لأننى لا أستطيع أن أقذف الحجارة لكل هذه المسافة، ولكن وجودى وسط الشباب كان يفرحهم، وكان يفرحنى أنا أيضا، إذ كنت أشعر بأننى أعيش لحظة يصعب علىّ أن أعيشها مرة أخرى، وحين يأتينى هاجس أن تكون اللحظة الأخيرة، كنت أحس بأنها لحظة تستحق أن تكون نهاية للحياة، ولكنى كنت أستكثر هذه النهاية العظيمة على نفسى!

لم أكن أعرف أن وقوفى فى هذا المكان مهم لهذه الدرجة، ولكن فيما بعد عرفت أن الصحفى محمد الجارحى (الصحفى المعروف فى جريدة الدستور) كان يباهى بنا، ويحمس المثقفين والأدباء، فكتب على التويتر: (يا أيها المثقفون أين أنتم؟ فلان يقف فى الصفوف الأولى هو والدكتور مصطفى النجار يقاومون هجوم البربر)!

كان المهاجمون يلقون المولوتوف بكل دناءة على شباب الثورة، تسبب ذلك فى حرق بعض الأشجار، وتسبب كذلك فى حرق بعض الممتلكات، وتمت مطاردات على أسطح المبانى، وحسمت فى النهاية لصالح شباب الثورة، وتم تأمين جميع أسطح المبانى.

ظلت المعركة مستمرة حتى اقتربت الساعة من الثالثة، وحينها رأيت مشهداً فريداً، فقد أصبح الشباب عند تمثال عبدالمنعم رياض، وأصبحوا يحتمون بالتمثال، والمهاجمون يلقون بقنابل المولوتوف عليهم، فتسقط على التمثال!

يا إلهى، يا خالق الكون، يا رب مصر!

انصرنا على من يقصف تمثال الشهيد!

هذا الرجل قـَصَفـَتـْهُ إسرائيل، وها هو نظام مبارك يقصفه مرة أخرى!

خلال هذه الأحداث كنت ألتحف عباءة ثقيلة من شدة البرد، وكنت ألف رأسى بكوفية ثقيلة لحمايته من الأحجار لا من البرد، وحدث ما كنت أخشاه، إذ سقطت على رأسى (طوبة) ولكن الله سلم، وسقطت علىّ من الخلف!

وعرفت بعد ذلك أن بعض الإصابات كانت بسبب بعض الخائفين من التقدم، الذين كانوا يرمون بالحجارة من مسافة بعيدة، وبالتالى تسقط على إخوانهم فى الصفوف الأولى.

بعد ذلك، وعند الساعة الثالثة والثلث، وبعد أن سيطرنا على الميدان سيطرة كاملة، شاهدت بأم عينى القناصة على كوبرى السادس من أكتوبر.

لم أكن أعرف أن النذالة من الممكن أن تصل لهذه الدرجة!

لا أعرف من هم، ولا يهمنى أن أعرف، ولا أعرف لأى جهة يتبعون، ولا يهمنى أن أعرف، ولكننى أقسمت أن أروى ما حدث!

سمعت صوت الرصاص!

حين بدأوا بإطلاق الرصاص، استعدت شعور نبتة الصَّبـَّار مرة أخرى!

الصَّبـَّار لا يُؤْكـَل!

الصَّبـَّار نبتة تواجه كل حيوان يلتهمها بشوك فى حلقه!

لا يأكل الصَّبـَّار إلا الجمل، ولكننا قد هزمنا جمل الحزب الوطنى!

فنحن الصَّبـَّار الذى لا يأكله أى كائن كان، حتى الجمل!

للمرة الأولى فى حياتى أعرف معنى صوت الرصاصة!

صوت الرصاصة، ليس صوت انطلاقها من البندقية، بل هو صوت استقرارها فى جسد الإنسان!

سمعت صوت الرصاصة وهى تخترق بطن الشاب الواقف جوارى!

لا أدرى من هو، ولا أعرف ما حدث له بعد ذلك، ولا أعرف عدد الشهداء الذين سقطوا فى هذه الليلة، ولكنى رأيت القناصة فوق الجسر بعينى، يصوِّبون نحو الشباب عمداً مع سبق الإصرار والترصد، هنا.. تحت أرجل تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض، وليشهد التاريخ!

انطلقت الرصاصات، وبعدها بثوان، انطلقت مجموعات من الشباب، كل مجموعة تحمل مصاباً!

احتمينا بالسواتر، وأنا مشيت ببطء باتجاه سور المتحف المصرى.

وانتهت المعركة.

وانتصرنا.

لقد أصبح الميدان ملكنا، وبعد يومين سيصبح الرأى العام معنا مرة أخرى!

كان هذا ما جرى فى الصفوف الأمامية، وقد كانت هناك معركة أخرى فى الصفوف الخلفية، ولم تكن البطولات فيها أقل من معركة الصفوف الأمامية، إنها معركة المستشفى!

يقع المستشفى فى ميدان التحرير، بجوار مطعم هارديز عند الجامعة الأمريكية.

بدأ المستشفى باستقبال الإصابات منذ الظهيرة، أى مذ بدأ المهاجمون بإلقاء الحجارة علينا، وفى حدود الثالثة عصراً بدأت الأدوات والضمادات تنفد، وبدأ الطاقم الطبى يحتال على هذا الأمر بأن يخيط الجروح بأقل قدر ممكن من الخيوط، فمن يحتاج ست غرز يخيط جرحه بغرزة أو غرزتين.

أرسل المسؤولون عن المستشفى من يشترى مستلزمات جديدة، ولكنهم فوجئوا بحصار مريب، فكان البلطجية يضربون من يحمل أى أدوية أو مستلزمات طبية، ثم يأخذون المستلزمات فور خروج من يشتريها من أى صيدلية، ويرمونها فى النيل أو فى القمامة، وكأنهم فى انتظار أن يصطادوا أى أحد معه مستلزمات طبية.

عند تمام الرابعة انتهت جميع الأدوية والمستلزمات من المستشفى!

كان عدد الأطباء فى المستشفى أقل من عشرة، ولم يكن المكان يحتاج أكثر من ذلك، ولكن مع بدء المعركة تغيرت الأمور.

عندى شهادة لمتطوعة فى هذا المستشفى، هى الصديقة العزيزة الأستاذة هيام فاضل، وهى إعلامية معروفة، وكانت متطوعة كممرضة خلال هذه الفترة.

ما حدث أنه فى تمام الخامسة حضر الدكتور «خالد» ووجد الوضع على ما هو عليه، فعمل هو وجميع الموجودين فى المستشفى من أجل توصيل صرخة استغاثة إلى العالم، وتم التواصل مع وسائل الإعلام، وأمر الدكتور «خالد» بأن يتم تصوير الإصابات بالفيديو، وأن يتم رفع هذه الفيديوهات على اليوتيوب والـ«فيس بوك».

كانت النتيجة المباشرة ارتفاع عدد الأطباء، فأصبح عدد الأطباء مئات، وبالتالى تم توزيعهم على عدة أماكن، وعلى عدة مستشفيات فى الصفوف الأولى عند خطوط المواجهة.

وبعدها جاء الفرج من عند الله!

بدون مقدمات، وجد العاملون فى المستشفى عربة كبيرة مليئة بكل المستلزمات التى يحتاجونها وبكميات ضخمة جداً، عربة فيها ضمادات ومضادات حيوية وخيوط جراحية وبنج.. إلخ، وجدوها أمامهم عند المستشفى، ودخلت لهم من شارع محمد محمود، من جهة الجامعة الأمريكية، وبهذا تم حل المشكلتين، مشكلة الطاقم الطبى قليل العدد، ومشكلة المستلزمات الطبية التى انتهت.

عند منتصف الليل بدأ وصول الإصابات بالرصاص!

وكانت فى البداية إصابات فى الأيدى والأرجل، ثم أصبحت بعد ذلك (بعد الثانية صباحاً) إصابات قاتلة فى القلب والرأس!

تذكر الأستاذة هيام فاضل مشهداً فى قمة البطولة، مشهد ذلك الشاب البطل، الذى حضر بإصابة فى رأسه بسبب حجر، فخيطوه، وانطلق للجبهة مرة أخرى، ثم عاد بإصابة أخرى، فعالجوه، ثم انطلق وعاد بإصابة ثالثة، ثم رابعة، وفى المرة الخامسة عاد برصاصة فى كتفه!

الغريب، أنهم بعد أن استخرجوا الرصاصة منه، كان يريد أن يعود إلى الصف الأمامى لإكمال المعركة، مما اضطر الطاقم الطبى إلى حجزه وحبسه فى المكان لكى يمنعوه من الخروج!

من أسوأ ما حدث فى هذه الليلة القبض على سيارتى إسعاف تحملان بعض البلطجية وكسر الرخام، كإمدادات للمهاجمين!

هذا ما فعله الحزب الوطنى بالبلد، أجبر ملائكة الرحمة أن تتحول إلى شيطان رجيم!

ومن أسوأ ما واجهناه فى هذه الليلة، أننا قبضنا على الكثير من المهاجمين، وكان الكثير منهم من أفراد الشرطة، وبعضهم ضباط، فقد قبضنا على ضابطين برتبة نقيب ومقدم (على ما أذكر)، وكلاهما قبل على نفسه أن يدخل حاملاً سنجة يضرب بها الثوار!

لقد انتهت الليلة بانتصار الثورة، ولكى أكون منصفاً لابد أن أذكر أن الصفوف الأمامية كانت عامرة بفضل جماعة الإخوان المسلمين أولاً، ولولاهم لما مرت هذه الليلة على خير، وبفضل الكثير من سكان الأحياء الشعبية الذين تفننوا فى صنع المولوتوف، وبفضل المئات من القادمين من المحافظات، بالإضافة إلى الشباب المقيمين فى ميدان التحرير.