شريط البيبي سي

الأحد، 17 أبريل 2011

يوميات ثورة الصبار ( الحلقة الأولى ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

( الحلقة الأولى )

وصل الغضب في مصر إلى أقصى الحدود منذ سنوات ، وكنت – أنا وغيري – نشير إلى ذلك في شتى كتاباتنا ، ولكن بعد نجاح ثورة تونس في منتصف يناير 2011 ، تغير الوضع ، وأصبح التغيير أقرب مما نتصور ، على الأقل في نظري .
لقد وصل المصريون إلى درجة من درجات اليأس المطبق ، وفقدوا الثقة في كل شيء جميل ، وفي أي غد مشرق ، والأهم من ذلك أنهم فقدوا الثقة في أنفسهم ، فأصبحوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مجموعة من "السكّان" ، وليسوا شعبا عريقا عظيما .
وبسبب هذا اليأس ، تعامل البعض مع الدعوة التي خرجت إلى التظاهر في عيد الشرطة الذي يوافق 25 يناير 2011 بشكل روتيني ، فقالوا إنها ستكون مناسبة مثل كل المناسبات ، وإن المبالغة في تصويرها وكأنها ثورة محددة الموعد يعتبر تسطيحا لأمر شديد الأهمية !
لذلك هاتفت بعض الناشطين لكي يغيروا نظرتهم لهذه المناسبة ، وكانت حجتي في ذلك أن ما حدث في تونس جعل الملايين من المصريين يصدقون أن إرادة الشعوب لا تقهر ، وأن هناك احتمالا أن نرى مفاجأة كبيرة في هذا اليوم ، وقد استجاب لي أغلب الناشطين الذين حدثتهم ، وقرروا إعادة النظر في المشاركة في هذا اليوم .
قررت أن أشترك في هذا اليوم مع مجموعة من خيرة شباب مصر ، وهم الحملة الشعبية لدعم البرادعي ومطالب التغيير ، تلك الحركة الشبابية النقية التي شرفت بالمشاركة في تأسيسها ، وشرفت بأن أكون منسقها العام لعام كامل انتهى في ديسمبر 2010 ، وقد اختار الشباب أن يقيموا وقفة احتجاجية أمام نقابة الأطباء "دار الحكمة" ، وكان الترتيب يقتضي بأن يكون المكان سِرِّيًّا ، لذلك لم أعلم بمكان التجمع إلا قبل الوقفة بحوالي ساعة ، وقد أخبرت عشرات الناشطين الذين أرادوا أن ينضموا لهذه الوقفة أن يتصلوا بي صباح الثلاثاء 25 يناير لكي أخبرهم بمكان الوقفة .
هذا التخطيط نتج عنه أننا حين وصلنا إلى نقابة الأطباء لم نجد أي شرطة ، بل وجدنا المكان خاليا لنا تماما ، مما أتاح لنا فرصة التجمع ، وتكوين نواة لمظاهرة كبيرة ، وبالفعل ... تكونت هذه النواة من عدة مئات ، ثم استمرت في التضخم حتى بلغت ما يقرب من حوالي ألفي متظاهر ، غالبيتهم العظمى من الشباب ، بنين وبنات .
بعد أن بدأنا بالهتاف حضرت الشرطة ، وقامت بعمل كردون أمني (محترم) من حولنا ، بل إنهم أغلقوا حركة سير السيارات في شارع القصر العيني .
بدأت الهتافات : عيش ، حرية ، كرامة إنسانية ...
وأنا ابتكرت هتافين ، الأول :
يا أهالينا انضموا لينا ، قبل بلدنا ما تغرق بينا ...
والثاني :
يا عسكري يا ابو بندقية ، إنت معايا والا عليّ ، إنت بتحمي في الحرامية ...!
وهو هتاف مقتبس من أغنية كتبها الشاعر إبراهيم عبدالفتاح .
وكنت أنظر في عيون المجندين والضباط ، خصوصا عند جملة : إنت بتحمي في الحرامية ، فأرى في عيونهم حزنا وخجلا يصل لدرجة الخزي ...!
حضر الوقفة مجموعة من الرموز والمثقفين ، من أهمهم د.عبدالمنعم أبوالفتوح ، والكاتب الساخر بلال فضل ، والسيناريست محمد دياب ، والمخرج عمرو سلامة ، والمطرب المتميز حمزة نمرة ، وغيرهم .
كانت الهتافات مركزية ، يقودها الناشط محمود عادل ، مؤسس جروب البرادعي رئيسا .
ثم بدأنا بإلقاء الكلمات ، بدأت أنا ، وكانت الكلمة في أغلبها موجهة إلى هؤلاء الزبانية الأغبياء الواقفين أمامنا ، يحمون قاتلَهُم ، من مخلِّصِهم !
ثم توالت الكلمات ، عبدالمنعم أبوالفتوح ، وبلال فضل ، الذي ألقى كلمة شديدة التأثير .
بعد مرور ما يقرب من ساعتين اتضح أننا أصبحنا في فخ ، فلا نحن نستطيع الحركة ، لأن الحصار الأمني كبير جدا ، ولا نحن نستطيع أن نزيد حجم المظاهرة ، وذلك بسبب منع الناس من السير في الشارع سواء بسياراتهم ، أو راجلين !
وبدأت تصلنا أخبار من أماكن شتى ، كلها تشير إلى أن آلاف المتظاهرين يزحفون من أماكن مختلفة إلى ميدان التحرير ، لذلك اقترحت أن نكسر الطوق الأمني ونتجه إلى الميدان ، وكان ذلك قرارا صعبا ، لأننا نرى أمامنا جنودا مدججين بالسلاح والغباء ، جاهزين للفتك بنا إن حاولنا التحرك .
في النهاية ، بدأت – أنا وغيري – ممن نفذ صبرهم من هذا الوضع المتجمد بكسر الحصار ، وكانت النتيجة أننا اشتبكنا مع الأمن ، وحدثت بعض الإصابات ، وحين انكسر الطوق جرى الجميع باتجاه ميدان التحرير .
وكان من أهم الأشخاص الذين أصيبوا المخرج السينيمائي عمر سلامة ، إذ أمسك به رجال الأمن ، وأوسعوه ضربا ، وكانت إصاباته بالغة السوء ، بل أظنه كاد يقتل في مدخل أحد العمارات في شارع القصر العيني .
حين بدأنا بالجري ، وجدنا أمامنا تشكيلات ضخمة جدا من شرطة مكافحة الشغب ، وكان ذلك طبيعيا ومتوقعا ، لأننا نسير في اتجاه مبنى مجلس الشعب ، لذلك لم نجد خيارا سوى أن ننحرف يسارا إلى ضاحية جاردن سيتي ، ونصل بعد أن نعبرها إلى الكورنيش ، ومنها إلى ميدان التحرير .
ولكن ما حدث ، أن شرطة مكافحة الشغب حاصرتنا في محطة للوقود ، وتجمعنا عدة مئات ، وأمامنا جيوش من الشرطة بهراواتهم السوداء يقفون مستعدين للفتك بنا .
مع بداية الحصار حاول بعض ضباط أمن الدولة بملابسهم المدنية أن يضربوا المتظاهرين ، وفوجئوا بمقاومتنا الشديدة ، أنا شخصيا ضربت أحدهم وهو يضرب أحد الشباب بعصا غليظة في يده ، إذ أخذت العصا منه وضربته بها ، مما تسبب في حالة من التجمد في الموقف ، فالشرطة لم تكن تصدق أن هناك من يجرؤ على مقاومتها بهذه البسالة ، ونتج عن ذلك أن تمكن الشباب من الصعود إلى مبنى موجود في المحطة ، وظللت أنا وعدة أفراد واقفين أمام طابور الشرطة .
وفجأة ، قفز رجل من العاملين في المحطة محذرا الجميع من أننا نقف على خزان البنزين الرئيسي في المحطة ، وأننا جميعا في خطر كبير !
كان ذلك مخرجا لنا ، فجاء الفنان المصري (عباس أبوالحسن) وتفاوض مع الضابط بشأن خروجنا ، هو وأحد الأصدقاء الأعزاء (وهو من أقارب شخص مهم جدا في النظام الحاكم) ، ونجحت المفاوضات ، وخرجنا من المحطة إلى ضاحية جاردن سيتي .
وعند خروجنا ، حصل بيني وبين ضابط شاب احتكاك لا أدري كيف بدأ ، ولكني أظن أن كتفي لمسه وأنا أسير خارجا ، فما كان منه إلا أن دفعني بقوة ، فوقفت ، ونظرت إليه في عينيه ، فسبني بالأم !
حينها قلت له بكل أدب وغضب : هل تعرف أمي ؟
فسبها مرة أخرى : فقلت له ما معناه إنك شخص تافه وأنا أقترب منه ، وفي يده هراوة ، ووقفت أمامه قائلا : لو كنت رجلا ... اضرب !
فوقف متسمرا وهو رافع عصاه ، ويده ترتجف دون أن يتمكن أن يضرب ، وبعدها أتى عباس أبو الحسن ، وصديقي الذي ذكرت ، ومشينا .
أذكر هذه الحادثة الآن وكأنها إرهاصات الهزيمة النفسية لجهاز الشرطة ، ذلك الجهاز الذي كان يعتمد على خوف الناس ، وعلى تراجعهم أمامه ، وحين تجرأ الناس انهارت كل أجهزة الشرطة في وقت قياسي .
استغرقت رحلتنا إلى ميدان التحرير حوالي ساعة ، وكانت محفوفة بالمخاطر ، لأننا كنا تائهين في ضاحية جاردن سيتي ، وكنا نحاول أن نتجنب العديد من المصائب في رحلتنا ، أهمها مبنى السفارة الأمريكية ، وكذلك السفارة الكندية ، والبريطانية ...!
كنا خائفين أن نحتك بأي شكل من الأشكال مع الحراسات المخصصة لهذه الأماكن الحساسة .
وبفضل الله ، وجدت ضمن المتظاهرين الدكتورة مديحة دوس ، وهي من سكان جاردن سيتي فتمكنت من إرشادنا إلى كيفية الوصول إلى الكورنيش عبر متاهات جاردن سيتي ، وسرنا حتى وصلنا إلى ميدان الشهداء (التحرير سابقا) ، من أسفل كوبري قصر النيل .
بالنسبة لي ... كانت هذه اللحظة من أعمق لحظات عمري ...!
لقد كان منظر الميدان وهو ممتلئ بعشرات الآلاف من المتظاهرين يبشر بالفجر الذي طال انتظاره ، وحين دخلت الميدان و وجدت الشباب يهتفون فرحا بقدوم فوج جديد إليهم ، ويستقبلونني بالبشر والسرور ...
حينها بكيت !
وبدأت أصرخ بشكل هستيري ، مصر عظيمة ، نحن شعب عظيم ، أي كلب يقول إننا لا نثور سنضربه بالحذاء ، ما أجمل مصر ...
كل ذلك وأنا أبكي ، وحولي مجموعة صغيرة من الشباب الذين اشتركوا معي في هذه اللحظة الممتدة .
الميدان في تلك اللحظة كان ملكا لنا ، لا حركة سيارات ، ولا شرطة مكافحة شغب في داخله ، الشرطة تقف على مداخل الميدان ، دون أن تهاجمنا ، أو بعد أن هاجمتنا وصددنا هجومها ، وقد تم توثيق هروب الشرطة أمام المتظاهرين عبر كاميرات المحمول ، ونشر ذلك على الفيس بوك ، مما كان له أبلغ الأثر في مظاهرات جمعة الغضب بعدها بأيام .
من أغرب ما حدث في هذا اليوم ، أننا حين وصلنا إلى الميدان ، قرر العقل الجمعي للشعب المصري العبقري أن يحول الهتاف من (عيش ، حرية ، كرامة إنسانية) ، إلى هتافات سياسية بحتة تطالب برحيل الرئيس ، وسقوط النظام ...!
بعد أن تجمعنا في الميدان بدأت المشاكل ...
المشكلة الأولى هي الاتصالات ، فأصبح استخدام التليفون المحمول صعبا جدا ، وذلك بسبب تشويش من عربات مخصصة لذلك يستخدمها جهاز أمن الدولة ، مما صعب من تواصلنا مع بعضنا البعض كناشطين في مناطق مختلفة ، ولكن الخبر كان قد انتشر ، وأصبح ميدان التحرير قبلة جميع المتظاهرين في ذلك اليوم ، فجاء المتظاهرون من المهندسين ، ومن شبرا ، ومن ناهيا ومناطق الجيزة المختلفة ، وبعيد العشاء اكتمل العدد ، وقد وصل إلى ما أقدره بحوالي أربعين ألفا .
المشكلة الثانية كانت في كيفية التعامل مع كل هذه الحشود التي لا يربط بينها رابط ، فأغلب الحاضرين كانوا من غير المسيسين ، وكان الجميع لا يعرف ما الذي ينبغي عمله بعد ذلك !
لذلك ، كلفت الشباب بشراء سماعات وميكروفون فورا ، وأخرجت من جيبي الخاص مبلغ 1200 جنيه ، وبالفعل ذهب (محمود عادل) الناشط المعروف ومؤسس جروب البرادعي رئيسا إلى باب اللوق واشترى سماعة ضخمة ، وميكروفونا ، مع عدة كهرباء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق