شريط البيبي سي

الأحد، 17 أبريل 2011

يوميات ثورة الصَّبَّــار ...! ( الحلقة الرابعة ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

(هاهم يستخرجون أفضل ما في أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم) !
وكان من المشاهد المؤثرة التي شاهدتها رجل مع امرأته الحامل يخوضون المعركة مع المتظاهرين !
شاهدت أطفالا صغارا لا تتجاوز أعمارهم العاشرة يشاركون في المعركة ، وشاهدت سيدات كبيرات ، وفتيات صغيرات .
كانت الغالبية العظمى من الشباب الذين لم يتموا الثلاثين .
كنت أشعر أن البلد يولد من جديد ، كنت أشعر بطاقة حب غريبة !
بالرغم من اشتعال المعركة كان الجميع يواصلون الهتاف ، يسقط يسقط حسني مبارك ، وكلما شاهدوا شابا أو رجلا في شرفة من الشرفات يتفرج على المظاهرة يهتفون له وهم يؤشرون له بالنزول : ( إنزل إنزل خليك راجل ، حسني مبارك راحل راحل !) .
في هذه الأثناء أذن العصر ، وبدأ الناس بأداء الصلاة جماعات جماعات تحت الجسر ، وبرغم مرور كل هذا الوقت إلا أن ملابسي ما زالت تقطر ماء بسبب المدرعة اللعينة التي أغرقتني بمائها ، وبدأت أشعر بإجهاد شديد بسبب البرودة النسبية لذلك اليوم ، بالإضافة إلى الغازات والمجهود الذي يبذله المرء في الكر والفر .
انضممت إلى جماعة وصليت العصر ، ثم أكملت الجموع معركتها مع الشرطة .
لقد كان الوعي الذي يحرك المتظاهرين في غاية الروعة ، لدرجة أنني كنت أحمل في يدي حجرا على سبيل الاحتياط ، فوجدت من ينبهني إلى ضرورة التزام الشكل السلمي للتظاهرة .
وبقدر الوعي الذي كان في المتظاهرين ، بقدر ما كانت خسة رجال الشرطة ، فقد أحرقوا سيارة مدنية خاصة واقفة في الشارع عمدا أمام أعيننا ، وحين حاول البعض إطفاء الحريق أطلقوا نحوهم القنابل ، ثم أطلقوا عليهم الرصاص المطاطي .
وفي منتصف المعركة توقفت الشرطة عن إطلاق القنابل حتى أوحي إلينا أن المعركة انتهت ، ولهذا بدأ المتجمهرون بالاقتراب من الشرطة ، وبعد أن أصبحنا في مواجهتهم انهالت علينا القنابل من المدرعات ، ومن فوق الجسر ، وتسبب ذلك في إصابات كثيرة ، وأصبت حينها باختناق شديد ، وفقدت العصا التي غنمتها من الجندي ، ولولا مساعدة أحد الناشطين الذين يعرفونني (اسمه كريم الجهيني) لكنت قد فقدت وعيي .
بعدها بدا واضحا أن التشكيلات التي أمامنا من مكافحة الشغب قد باتت في وضع محرج ، فهي تتراجع ، وتقلل مما تقذفه علينا .
أنا شخصيا كان رأيي أن هناك أمرا ما قد جاء لهذه التشكيلات ، إما بالكف عن الضرب ، أو بالانسحاب ، والبعض رأى أن ذخيرتهم من القنابل قد فرغت !
وأنا الآن أظن أن الأمر مزيج من الاثنين .
بعد أن أفسحت لنا شرطة مكافحة الشغب طريقنا حدث مشهد في منتهى الروعة !
لقد بدأ المتظاهرون بالسلام على عساكر وضباط الشرطة ، بل إن البعض بدأ بتقبيلهم والحديث معهم بما يرفع معنوياتهم ، وبما يرفع الحرج عنهم ، كلام من نوعية : والله العظيم عاذرينكم ، عارفين إنه مالكوش ذنب ، منه لله اللي بيخليكوا تعملوا فينا كده !
وفي هذه اللحظة صعد بعض المتظاهرين أعلى الكوبري وبدؤوا برشق الشرطة بالحجارة ، فما كان من جموع المتظاهرين إلا أن تكتلت أمام تشكيلات الأمن المركزي كدرع بشري ، مع هتاف موحد يدوي في السماء : سلمية ، سلمية !
كان هناك بائع (سميط) في المظاهرة ، يبيع وهو يصرخ : (بنص جنيه) ، وحين انتصرت الجموع على الأمن رأيت هذا البائع يصرخ فرحا : (ببلاش ببلاش ببلاش) !
وبدأ الناس يأخذون بضاعته مجانا ، ويقبلون عليها من شدة التعب وهو راض بذلك ، فجاء شاب ثلاثيني سمح الوجه ، وقال للبائع : (بتتكلم جد؟)
فأجاب البائع بثقة : (أيوه ... اتفضل) ، فما كان من الشاب إلا أن أخرج من جيبه ورقة نقدية بمئتي جنيه ، وأعطاها للبائع في يده ، قائلا له : (برافو عليك) ...!
كان هذا الموقف وما شابهه إرهاصة لما سوف يحدث في الميدان ، أعني بذلك ظهور أخلاق جديدة ، وسلوك مختلف من المصريين ، بسبب اللحظة التاريخية التي يعيشونها .
وبهذا المشهد الرائع انتهت معركة ميدان الجيزة ، وتحركت الجموع إلى ميدان التحرير .
كنت في غاية الإجهاد ، لذلك مشيت مع الماشين حتى وصلت لسيارتي عند حديقة الحيوان ، وقررت أن أذهب إلى منزلي في السادس من أكتوبر لتبديل ملابسي .
استغرقت رحلتي إلى المنزل ما يزيد على ساعتين ، ذلك أن انسحاب الشرطة من الشوارع قد بدا واضحا ، لذلك كلما سلكت طريقا وجدته مغلقا إما بالمظاهرات وإما بالبلطجية !
كان الطريق الدائري (من جهة المنيب) مغلقا بالبلطجية ، وكانوا يمنعون السيارات من المرور مع التلويح بالعصي والسكاكين ، وكذلك كل الطرق التي تمر بمنطقة وسط البلد ، لذلك اضطررت للعودة والدخول من حي المنيل إلى منطقة سور مجرى العيون ثم عبر القلعة إلى أن ارتقيت كوبري 6 أكتوبر من طريق صلاح سالم ، ثم مشيت إلى أن وصلت إلى كوبري 15 مايو ، وعندها وجدت قوات مكافحة الشغب تتصدى لجموع قادمة من جهة شبرا ، وجموع أخرى قادمة من بولاق ، وجموع قادمة من الزمالك ، وكلها تريد الوصول إلى ميدان التحرير .
في هذه المنطقة وقفت ما يقرب من ربع ساعة ، ثم تجمعت بعض السيارات ففتح الأمن المركزي لنا الطريق وعبرنا بسرعة من خلال كوبر 15 مايو من فوق الزمالك حتى وصلت إلى المهندسين ، وفي ميدان سفنكس كانت هناك اشتباكات عنيفة جدا بين المتظاهرين والشرطة ، وكادت سيارتي تدمر بسبب القنابل والحجارة التي يلقيها الطرفان .
من أهم مميزات رحلتي الطويلة إلى المنزل أنني رأيت المظاهرات في أجزاء كثيرة من القاهرة ، خصوصا حين قطعت المسافة من شرق القاهرة عبر كوبري 6 أكتوبر إلى المهندسين ، ثم إلى السادس من أكتوبر .
رأيت مناطق مثل العباسية ، وغمرة ، ورمسيس ، وشارع الجلاء ، وبولاق ، وكورنيش شبرا ، والزمالك ... كل هذه المناطق كانت غاصة بالبشر .
ما رأيته بنفسي في هذا اليوم لا يقل عن نصف مليون متظاهر بأي حال من الأحوال .
طوال الطريق كنت أستمع إلى إحدى محطات الإذاعة الرسمية ، وعلى مدار ساعة ونصف كانت الإذاعة تحاول أن توضح أن الأمور مستقرة ، وأن الاحتجاجات محدودة جدا ، وأنها محصورة في محافظات قليلة .
هذه الرسالة الإعلامية المزورة جاءت على لسان محافظي الفيوم والغربية والسويس وقنا وأسيوط وغيرهم ، وبعض هؤلاء المحافظين بالغ في صفاقته حتى زعم أن الشرطة تحمي المتظاهرين ، وتؤمن مسيرتهم لا أكثر !
وعند الخامسة والنصف ، كانت نشرة الأخبار تعلن نزول القوات المسلحة بأمر من مبارك بصفته الحاكم العسكري ، وتفرض حظر التجول ، وغير ذلك من الإجراءات ، وذلك من أجل حماية ممتلكات الدولة والمواطنين من اعتداءات الغوغاء على الفنادق والبنوك وغيرها .
حينها قلت في نفسي : يا لغبائهم !
نفس الراديو كان يعلن منذ دقائق أن الأمور مستقرة ، وفجأة اتخذت كل هذه الإجراءات من أجل حماية البلد من الغوغاء ...!
كانت رائحة القنابل في كل مكان ، كلما فتحت شباك السيارة في أي مكان في القاهرة تقريبا تدخل هذه الرائحة الخانقة .
واصلت طريقي إلى منزلي ، ووصلت بعد المغرب ، فخلعت ملابسي وأنا منهك تماما ، وجسلت أمام محطات التلفزيون ، وأعلن التلفزيون المصري عن كلمة سيلقيها مبارك بعد قليل .
بعدها أعلن أن السيد فتحي سرور قد صرح بأن هناك قرارات مهمة سيتم الإعلان عنها !
كان انطباعي أن هناك صراعا في غرفة القيادة على كيفية إعلان خروج مبارك من الحكم !
لقد وصل المتظاهرون إلى مبنى التلفزيون !
والحرائق ممتدة بدء من أقسام الشرطة ، وصولا إلى المتحف المصري ، مرورا بمقر الحزب الوطني الحاكم !
لقد سقط مبارك ، ونحن في انتظار خطاب التنحي !
ما عرفناه بعد ذلك أن الوحدات التي جاءت إلى منطقة وسط البلد كانت من الحرس الجمهوري ، وكان الهدف منها أن تؤمن مبنى ماسبيرو ، وهذا ما حدث ، وتم إقناع المتظاهرين (وهم بالمئات) بالخروج من المبنى ، ولم يلتفت أحد من هؤلاء القادة إلى ما يحدث في المتحف المصري ، فأمنوا التلفزيون والإذاعة ، وتركوا المتحف ينهب ، وتركوه أيضا معرضا للاحتراق بسبب الحريق الذي شب في مبنى الحزب المجاور له !
جلست أتابع وأنا في انتظار خطاب التنحي ، وبعد منتصف الليل ، خرج علينا بوجهه العكر ، ليعلن بقاءه ، ويعلن تعيين نائب ، وإقالة الحكومة !
شعرت بصفعة على وجهي !
يا له من عتل غبي !
قلت في نفسي : (والله لن أبيت في منزلي هذه الليلة !) ، فقمت من فوري ، ولبست ملابسي مرة أخرى ، وتوجهت فورا إلى الميدان !
كانت الطريق سالكة ، فوصلت بسرعة كبيرة .
فوجئت حين وصلت بأن عدد الشباب المرابطين في الميدان قليل جدا ، أظنه لا يصل لخمسة آلاف شاب !
بدأت بجولة تفقدية للميدان ، فوجدت عددا كبيرا من الشباب يحرس المتحف المصري ، وقد قبضوا على بعض ضباط وأفراد الشرطة وهم يحاولون العبث به ، وكان ذلك استجابة لنداء المخرج السينمائي خالد يوسف عبر شاشات التلفاز .
الدبابات تمركزت على مداخل الميدان كلها ، ولا وجود للشرطة نهائيا ، اللهم إلا بعض سيارات الشرطة المحترقة ، وبعض الغنائم التي غنمها المتظاهرون ، كالخوذات والعصي !
ومن أغرب ما شاهدته مدرعة محترقة من مدرعات الجيش ، فسألت الشباب عنها ، فأخبروني أنها مدرعة تابعة للحرس الجمهوري ، وأن المتظاهرين أحرقوها لأنها كانت تنقل الذخيرة لقوات مكافحة الشغب !
وكذلك ضُبِطَتْ سيارة إسعاف تنقل ذخيرة لهم ، ولهذا تم منع أي سيارات تعبر من الميدان إلا بعد أن يتم تفتيشها .
لم أجد أي شخص معروف في الميدان ، ولم أجد أي قيادي من القيادات الشبابية أو التاريخية ، وكنت قلقا جدا ، لأن العدد كان قليلا ، ولو أراد النظام تفريغ الميدان ممن فيه الآن لتمكن من ذلك !
حين حاولت أن أنشيء إذاعة أخرى مثل التي أنشأتها في الخامس والعشرين من يناير لم أتمكن ، فجميع المتاجر مغلقة .
حاولت بعد ذلك (في صبيحة اليوم التالي) أن أشتري سماعات من بعض منظمي الأفراح ، ولكنهم بالغوا في الأسعار ، ولم يكن معي ما يكفي من المال ، وحين وجدت بعض الشباب أقاموا الإذاعة ارتحت ، وكذلك قام شباب الإخوان بعمل إذاعة صغيرة تأتي بها سيارة ، ثم تطورت هذه الإذاعة ، وأصبح لها الصوت الأعلى في الميدان .
كان ظني أن الناس قد تعبت من معركة البارحة ، وأنهم سيرتاحون ويبدلون ثيابهم ثم يعودون ، تماما كما فعلت أنا .
وهذا ما حدث ، إذ بدأت الجموع تتدفق على الميدان منذ الصباح الباكر ، فكان العدد يفوق الخمسين ألفا عند التاسعة صباحا ، وكان يفوق الربع مليون مع أذان الظهر .
إذن ... فقد بدأت معركة الصبر !
وللحديث بقية  ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق