شريط البيبي سي

الأحد، 17 أبريل 2011

يوميات ثورة الصـَّبـَّـار ...! ( الحلقة الثالثة ) لـ أ / عبد الرحمن يوسف

وحين سألني الدكتور البرادعي عن رأيي فيما يحدث ، قلت إننا لا بد أن نفهم أننا لا نتعامل مع وزارة الداخلية ، وأن هذا الوضع الذي نحن فيه يعتبر أكبر تهديد للنظام الجمهوري منذ قيامه عام 1952 ، وبالتالي هذا الأمر أكبر بكثير من أن يديره وزير داخلية أيا كان ، وأننا نتعامل حاليا مع النواة الصلبة للنظام ، وأن هناك غرفة عمليات في مكان ما تدير المسألة ، وتعطي أوامرها لوزارة الداخلية لكي تنفذ .
ودللت على ذلك بأن النظام فعل ذلك عند أزمة القضاة ، وشكل غرفة عمليات تدير الأزمة ، وتعطي الأوامر لوزارة الداخلية لتنفذها فقط ، ولا دور لوزارة الداخلية سوى التنفيذ .
وكان من ضمن ما قلته إن أكبر خطر يهددنا هو أن يطول أمد المعركة ، وأننا لا بد أن نكون حذرين جدا في إدارة عمر المعركة ، لأننا لا نضمن إلى أي حد سيطول نفس الجموع معنا ، ولا ينبغي أن نرهق الجموع في معركة طويلة الأمد دون أن نتأكد من قدرة الناس على الاستمرار ، وقد قدرت الزمن الذي ينبغي أن نحسم فيه المعركة بحوالي أسبوعين .
وقد تبين بعد ذلك أن الشعب المصري أعظم وأقوى مما نظن ، فقد طالت المعركة أكثر من ذلك ، ولم يقل الزخم ، ولم تفتر عزيمة المعتصمين .
ويبدو أن النظام بلغ أيضا من الغرور والغباء بحيث أوكل إدارة هذه المعركة لوزير الداخلية الفاشل لوحده .
كنا نتوقع أن يكون عدد المتظاهرين من مليون إلى مليوني متظاهر في مصر كلها ، وكان تخوفنا أن يكون العدد أقل من مليون متظاهر ، وكنا نعتبر أن نزول مليوني متظاهر كفيل بأن يهز النظام هزة قد تنهيه تماما .
كانت الخطة أن نصلي الجمعة مع الدكتور محمد البرادعي في مسجد الاستقامة الواقع في ميدان الجيزة ، تم إعلان ذلك على الفايس بوك ، واتصل بي عشرات المواطنين والناشطين يتساءلون عن مكان صلاة الدكتور ، وأخبرتهم .
كانت الأخبار تتواتر لدينا بنية الحكومة في قطع جميع أشكال الاتصال ، من محمول ، وإنترنت ، لذلك اتفق جميع الناشطين على أماكن لقاءهم بدقة لأنهم يعلمون أن التواصل غدا قد يكون مستحيلا .
في صباح يوم الجمعة حدث أمر غريب ، وخلاصته أن الدكتور مصطفى النجار اضطر أن يتحرك من مسكنه في مدينة السادس من أكتوبر إلى ميدان التحرير لكي يوصل غرضا معينا ، وكان تحركه في حدود التاسعة صباحا ، وقد اتصل بي وهو فزع ، وقال لي : (الجيش شكله حينزل) ...!
فاستغربت ، وسألته عن السبب ، فأجاب بأنه لا يرى شرطيا واحدا في أي شارع من شوارع القاهرة منذ انطلق من مدينة السادس من أكتوبر وحتى وصوله إلى وسط المدينة !
أعدت عليه السؤال ، فكرر الإجابة مؤكدا ، وأخبرني أنه في ميدان التحرير ، ولا يوجد أي شرطة لمكافحة الشغب ، بل إن شرطة المرور اختفت من الشوارع ...!
اتصلت ببعض الأصدقاء أسألهم عن دلالة ذلك ، وكان من ضمنهم الصديق العزيز الأستاذ حسين عبدالغني الإعلامي الشهير ، وأذكر أنه قال لي : (دي مش موجودة في الكتاب يا عبدالرحمن !) ، ويقصد أنه أمر غريب مريب لا تفسير له .
تبيّن بعد ذلك أن ما حدث أمر من اثنين ، إما أن الشرطة كانت مختبأة وظهرت في وقت الصلاة ، وهو احتمال أستبعده .
وإما أن شرطة مكافحة الشغب قد تعبت بعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل ، فعادت إلى معسكراتها ليلة الجمعة وذلك في محاولة لمنح هذه القوات قسطا من الراحة ، ثم جلبت إلى مواقعها مع صلاة الجمعة ، وهذا ما أرجحه .
وصلتنا أخبار صباح الجمعة أن الأمن سيمنع الصلاة في مسجد الاستقامة ، وبالتالي قلنا للجميع أحضروا معكم سجاجيدكم لكي نصلي في الشارع .
قبل العاشرة والنصف بدأت شبكات المحمول بالتأثر ، وخلال عدة دقائق تعطلت الشبكات الثلاث ، وانقطع الناس عن بعضهم البعض تماما ، وانقطع كذلك الاتصال بالشبكة العنكبوتية ، مما جعل مصر جزيرة منعزلة عن العالم ، وأصبح شكل الاتصال الوحيد المتاح هو الاتصال عن طريق الهاتف الأرضي .
كان الاتفاق أن نلتقي أمام منزل الدكتور أحمد شكري ، وهو ابن اخت الدكتور البرادعي ، ويسكن أمام حديقة الحيوان بالقرب من ميدان الجيزة ، وتقابلنا هناك في حدود الحادية عشرة صباحا ، وكان هناك جمع من الرموز على رأسهم الدكتور عبدالجليل مصطفى ، والدكتور أبوالغار ، ومصطفى النجار ، التقيت يومها السيدة هبة صالح مراسلة الفاينانشال تايمز للمرة الأولى ، وذلك بعد علاقة (لاسلكية) استمرت عدة شهور ، وكان من الحاضرين كذلك د.أسامة الغزالي حرب ، والصحفي الأستاذ إبراهيم عيسى .
وصل الدكتور البرادعي متأخرا قليلا ، وبعد أن كنا بدأنا بالقلق عليه ، وتحركنا فور وصوله إلى مسجد الاستقامة في مسيرة بالسيارات ، ووقفنا قبل الوصول للمسجد في مكان متفق عليه ، حيث كان ينتظرنا عشرات الشباب لكي يقوموا بالتحلق حول الدكتور لحمايته من أي أذى .
تحلق الشباب حول الدكتور ، وبدأت المسيرة التي لم تستغرق سوى دقائق ونحن نهتف تحيا مصر ، حتى وصلنا إلى المسجد ، وكانت الخطبة قد بدأت ، وكان المسجد غاصا بالمصلين .
حاولت الدخول إلى المسجد فلم أتمكن ، ولكني صليت أمام باب المسجد .
أما الدكتور البرادعي بسبب كثرة المحيطين به فلم يتمكنوا من الوصول إلى باب المسجد من الأساس ، لذلك صلوا في الشارع .
المكان محاصر بآلاف الجنود من الأمن المركزي ، والجو فيه قلق وتوتر يكاد يشمه المرء في الهواء .
حاولت التركيز في خطبة الجمعة لأعرف رأي المؤسسة الدينية فيما يحدث ، فوجدت الخطبة متوازنة .
المسجد الذي اخترناه تابع للجمعية الشرعية ، وقد قال الخطيب في خطبته أن الجمعية الشرعية أصدرت بيانا من ثلاث نقاط ، النقطة الأولى تدعو الحكومة إلى رد المظالم ، والنقطة الثانية تؤكد فيه على حق المتظاهرين في التعبير عن رأيهم ، والنقطة الثالثة تدعو المتظاهرين إلى عدم الاعتداء على أي ممتلكات عامة أو خاصة .
بعد أن سلم الإمام تسليمته الثانية انطلقت الهتافات من المصلين بشكل عفوي ، تحيا مصر ، ومن جهة أخرى هتافات تقول التغيير التغيير ، ولكن حين هتف شخص قائلا : يسقط يسقط حسني مبارك ، توحدت كل الحناجر كأنها سيل عرم ، أو كأنها رعد من السماء ، وظل المصلون يرددون هذا الهتاف ضد مبارك ويكررونه دون أي كلل أو ملل .
في هذه الأثناء غيرت موقعي لكي أحاول الوصول للدكتور البرادعي ، فرأيت مشهدا لن أنساه ، لقد بدأت المدرعات برش المياه على المصلين برغم أنهم لم يتحركوا بعد من أماكنهم ، ونظرا لأن الدكتور البرادعي لم يتمكن من دخول الجامع ، فقد كان خرطوم المياه موجها نحوه مباشرة !
حاول الشباب أن يحموه ، ولكني شاهدت الماء يخبطه هو شخصيا في رأسه وجسده ، وهو مستكين صابر كعادته ، كل ما فعله أن حمى نظارته من السقوط بيديه ، ثم أخذه الشباب إلى داخل المسجد لكي يتمكنوا من حمايته ، وانضم له في المسجد كل الكبار الذين كانوا معه .
كان أمامي ثلاثة خيارات ، الخيار الأول : التوجه مع مجموعة من المصلين إلى جامعة القاهرة .
والخيار الثاني : أن أحتمي بالمسجد مع الدكتور البرادعي والناشطين الذين معه .
والخيار الثالث : أن أخوض المعركة مع المتظاهرين المتجمهرين هنا في ميدان الجيزة .
وقد اخترت الخيار الثالث ، لكي أبقى على مقربة من الدكتور البرادعي لو حدث أي تطور ، ولكي لا يفوتني شرف المشاركة في هذا اليوم العظيم .
بدأت المعركة برش المياه على المتظاهرين ، وقد كنت من ضمن مجموعة حاولت أن تحمس الناس لكي يتشجعوا ويدخلوا باتجاه الجنود ، وقد قمت بالاشتباك مع بعض الجنود ، وخطفت عصا من يد واحد منهم ، وكنت سعيدا بها جدا ، ولكنها ضاعت مني في أحداث المعركة بعد ذلك !
حين اشتبكت مع الجنود أصابني خرطوم المياه الخارج من المدرعة إصابة مباشرة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ، فصار منظري كأنه خرجت من البحر لتوي !
كنت ألبس بنطلون (جينز) ، وكنزتين من الصوف ، وذلك لحماية جسمي من الهراوات التي قد تسقط عليه ، وصار كل ذلك مبتلا تماما ، كل ما ألبسه من ملابس ، حتى الداخلية صارت مبتلة تماما ، وظلت مبتلة لساعات ، حتى إنني بعد أن صليت العصر كنت ما زلت أعصر ملابسي فتنز الماء نزا !
بدأت المعركة بالماء ، ثم بعد أن ابتعد المتظاهرون – بسبب الماء – مسافة معقولة بدأت القنابل المسيلة للدموع بالانطلاق .
لقد ألقي علينا مئات من القنابل !
كان عدد المتظاهرين يزداد كل دقيقة ، وكان المتظاهرون يأتون من مناطق الجيزة المختلفة حتى يصلوا إلى ميدان الجيزة ، فينضموا إلينا .
كان المتظاهرون قد فهموا اللعبة ، وعرفوا كيفية التعامل مع القنابل المسيلة للدموع ، فالعلاج هو الخل ، مناديل مبتلة بالخل ، وكذلك أن يشم المصاب بصلا ، أو أن يغسل وجهه بالبيبسي أو ما شابه ذلك من المشروبات ، بالإضافة إلى حماية الوجه بقناع طبي ، وحماية العيون بنظارة مائية أو ما شابه ذلك ، وقد تعلمنا ذلك من خلال التواصل مع الشباب التونسي على الفايس بوك .
كنت قد حصنت نفسي ببعض هذه الأشياء ، وخضت المعركة مع شباب الجيزة الذين أظهروا شجاعة مذهلة !
كانوا يقفزون إلى القنابل المسيلة قفزا ، ثم يمسكونها بيديهم ، ويركضون بسرعة إلى رجال الشرطة ، ثم يلقونها ناحيتهم ، وقد ساعدهم في ذلك أن الله شاء أن يتغير اتجاه الريح فيصبح باتجاه الشرطة لا باتجاهنا .
في هذه المعركة ... عرفت أن التغيير أصبح واقعا ...!
لم أر في حياتي كلها المصريين يحبون بعضهم بهذا الشكل !
البصل والخل يتساقط علينا من الشرفات ، كلما تعب شخص وجد عشرة يحملونه ويساعدونه ، وجدت من المتظاهرين من اشترى قطرات العيون وظل يعالج بها عيون المصابين بالقنابل ، ووجدت من يشتري البيبسي لكي يساعد المصابين !
كان حواري الداخلي يقول : (هؤلاء هم المصريون ، المصريون الذين يقتلون بعضهم البعض من أجل عشرة جنيهات ، هؤلاء هم المصريون الذين يقترفون كافة الموبقات ، هؤلاء هم الذين يدفعون الرشى والإكراميات ، ولا يتقنون أعمالهم ، ويعيشون عالة على الأمم وعلى أنفسهم ... هاهم يستخرجون أفضل ما في أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم) !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق