شريط البيبي سي

الخميس، 11 أكتوبر 2012

دور العقل فى تطبيق الشريعة الإسلامية




أحمد كمال أبو المجد
الأحد 7 أكتوبر 2012 - 8:10 ص


فى مقدمة القضايا التى دار حولها حوار ساخن ــ ولا يزال دائرا ــ داخل الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع مشروع الدستور الدائم ما ورد فى المادة الثانية من دستور 1971 من أن «الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع».. وليست هذه هى المرة الأولى التى يثور حولها الحوار والخلاف الحاد بين أفراد وأحزاب وجماعات تصدر مواقفها من مضمون هذا النص عن منطلقات فكرية وسياسية مختلفة فى كيفية التعامل مع هذه القضية.

ولكن تصاعد الخلاف ــ خلال الأسابيع الأخيرة ــ داخل الجمعية المذكورة حول مكان الشريعة الإسلامية فى نظامنا السياسى والقانونى قد صار يهدد مصير المهمة الوطنية الكبيرة التى تباشرها تلك الجمعية بسبب تفكير عدد من أعضاء تلك الجمعية فى الانسحاب من الجمعية على نحو لابد أن يكون له أثر سلبى كبير على صورة المستقبل القريب فى حياتنا السياسية فى مصر، فى وقت نتطلع فيه جميعا إلى سرعة اجتياز هذه المرحلة الانتقالية الشائكة من حياتنا بعد قيام الثورة فى 25 يناير 2011.فى ظل هذا كله قدرنا أهمية وضع النقاط فوق حروفها، توضيحا لأمور من شأن الانتباه إليها إذا أضيف إليه النظر الموضوعى الهادئ إلى عناصر البدائل المطروحة فى هذا الشأن، ــ أن ينهى حالة القلق المشروع حول مصير عملية وضع الدستور، وأن يهدى جميع الأطراف المشاركة فى هذا الحوار الوطنى داخل المجتمع وفى ساحات العمل المختلفة خارج الجمعية إلى تحقيق وفاق وطنى يراه البعض بعيد المنال ونراه من جانبنا قريب المنال على نحو يدرأ الخطر ويحقق الإنجاز والاستقرار ويهيئ لبداية مرحلة جديدة توجه فيها طاقات الشعب كله، وطاقات مؤسساته الرسمية والشعبية نحو انطلاق حقيقى فى الإنتاج والبناء فى ظل استقرار مجتمعى وأمن مستتب ينعم بهما جميع المصريين.

ويكشف التصنيف السياسى لأصحاب الآراء المختلفة حول هذه القضية عن وجود تيارين لا يبدو أنهما أحدهما أو كلاهما على وعى كافٍ بعواقب الصراع فى قضية يحركها تصاعد المخاوف والهواجس المتبادلة بين أطرافها.

وحين نكتب هذه السطور انطلاقا من تاريخ تجربتنا المصرية عبر مئات من السنين.. وفى إطار عناصر «السياق المجتمعى» الذى نعيش الآن فى ظله، فإننا نأمل أن تكون هذه السطور عونا لنا على اجتياز الأزمة والانطلاق فى روح تصالحية وتوافقية تدرأ عن مصر وشعبها شرا خطيرا لا شك فيه.. وحين ننجح فى وقاية البلاد والعباد من هذا الشر فسوف نحمد الله كثيرا وسوف نذكر ــ مجتمعين ــ كلمات شاعر العربية الكبير أحمد شوقى ــ حين صرَّح وصَدَع بقصيدته التى كتبها فى سياق مشابه للسياق الذى نعيش فيه بعد نجاح الثورة.. قائلا:

وَقى الأَرضَ شَرَّ مَقاديرِهِ.... لَطيفُ السَماءِ وَرَحمانُها

وَنَجّى الكِنانَةَ مِن فِتنَةٍ.... تَهَدَّدَتِ النيلَ نيرانُها

كانت هذه السطور مقدمة لابد منها لاستعادة روح الأمل فى النجاة والتوجه الإيجابى المسئول لتقريب وجهات النظر إيمانا بأن التوافق الوطنى هو وحده القادر على تحقيق مصلحة شعب مصر.. وأن تصعيد «الاستقطاب» و«الانفراد» والإثارة، وكلها فيما نرى شعارات شيطانية ندعو الله أن يخرجنا منها حتى يخوض شعبنا هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه ثم يخرج منها متجمعا متوحدا «كالبنيان المرصوص».

● والخلاف الدائر منذ فترة طويلة داخل المجالس التشريعية المتعاقبة فى مصر وعلى صفحات العديد من المجلات والصحف فى العديد من الدول العربية حول تطبيق الشريعة الإسلامية يكشف عن خلافات فى منهج البحث وفى النظر إلى المسألة برمتها، وهى خلافات تتجاوز الحدود المعقولة للاختلاف الفقهى ليصير خلافا فى تصور المشكلة، وتصور الحلول المناسبة والبدائل المختلفة المتاحة لخلق «توافق وطنى» حولها.

ومن المصلحة أن نخصص هذه السطور لمهمة محددة هى تبيين معالم التيارين المشتبكين والمنطلقات الأساسية لكل منهما حتى لا تتداخل المواقف وتختلف الآراء، وحتى لا تتوه القضية ونضيع فى زحام جدل ظاهره الاختلاف داخل الإطار الواحد، وحقيقته الانطلاق من إطارين مختلفين لا يلتقيان.

● والموقف الأول يبدأ من النصوص الشرعية وينتهى إليها، ويطالب أصحابه فى إصرار شديد بضرورة إعلان الالتزام المطلق بتلك النصوص فى كلماتها وحروفها وظواهرها مع ما فى ذلك من إهدار صريح للقاعدة التى تقضى بأن العبرة فى ممارسة التشريع وفى تطبيق النصوص الملزمة «إنما هى بالمقاصد والمعانى وليست بالألفاظ والمبانى» ــ ويطالب أصحاب هذا النظر سائر الأطراف بإعلان الاستعداد الفورى لتطبيق تلك النصوص جملة وتفصيلا، وإلا وجب عليهم إعلان رفضهم لهذا التطبيق بلا مواربة ولا مناورة.

● والمنطلق النفسى لهذا الموقف منطلق مزدوج، فهو فى جزء منه تعبير مشروع عن شوق قديم طويل لرؤية الإسلام بمكوناته الفكرية والروحية مرفوع اللواء، ورؤية أحكامه نافذة الكلمة، ورؤية علمائه ودعاته أصحاب رأى مسموع فى تنظيم المجتمع. وهو فى منهجه تعبير عن روح محافظة تحرص على «تميز» الإسلام فى عقيدته وشريعته، وذلك عن طريق تطبيقه كاملا غير «مُطَّعم» بمكونات مستمدة من حضارة غير حضارته، وغير مُتصَرفٍ فيه «زيادة أو نقصا أو استدراكا أو تحفظا» نزولا على ما يسميه دعاة ذلك التطعيم مراعاة ظروف العصر ومقتضيات التطور.. ولهذا يفزع أصحاب هذا الموقف من عبارات «التجديد» و«التطور» و«تطوير الفقه والاجتهاد» وغير ذلك مما يفتح الباب ــ فى تقديرهم ــ للعبث بجوهر الإسلام وتطويع أحكامه لأهواء الناس.

● اما المنطلق الفكرى لهذا الموقف الأول فيستمده أصحابه من أصول ونصوص مختلفة:

● وأول هذه الأصول أن الإسلام كله جاء من عند الله ليطاع الله سبحانه بإقامة أحكامه.. وهذه الطاعة لا تكتمل إلا إذا كان التطبيق شاملا وعاما ومباشرا.. ويشهد لهذا الأصل فى تقدير أصحاب هذا الموقف الأول قوله تعالى «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما». (النساء:65).

وقوله تعالى «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْما لِّقَوْمٍ يُوقِنُون» (المائدة:50).

ويرى أصحاب هذا الموقف أن التردد فى تطبيق الشريعة الإسلامية تردد فى الإيمان واهتزاز فى العقيدة ومخالفة لأمر الله تبارك وتعالى، ومُشَاقةٌ للرسول.

● إن التشريع عمل إلهى خالص، لا يشترك فيه البشر، ومحاولة اشتراكهم فيه منازعة لله تعالى فى الحكم، وتطاول على السيادة الإلهية فى المجتمع الاسلامى؛ ذلك أن التشريع «حكم» ولا حكم فى المجتمع الإسلامى إلا لله تعالى «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» (سورة المائدة: 44).

● أنه لا سبيل للنظر العقلى الخالص فى أمور التشريع إذ لا سبيل لمعرفة الحق فى مصالح الناس إلا بالرجوع إلى الخالق سبحانه الذى «يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (الملك: 14) وما يراه بعضُ الناس مصلحة قد يراه الآخرون مفسدة، وما تراه الأغلبية حقا ومنفعة قد يكون عين الضلال والمفسدة.

كما أن الكثرة وحدها ليست دليلا على موافقة الحق وإصابة وجه المصلحة إذ «لَا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» (المائدة: 100)، والناس أكثر انقيادا لدواعى الهوى، وأسرعُ استجابة لما يحقق المنافع الظاهرة والعاجلة، ولو حملت فى طياتها أعظمَ المفاسدِ الآجلة، ولا مخرج للناس من ذلك كله إلا بالانقياد للشريعة التى تردهم إلى ما قد يخفى عليهم من وجوه المصلحة «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 216).

● أنه لا يحوز التردد أو التحفظ فى تطبيق حكم من أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى مراعاة روح العصر أو ظروفه، ذلك أن ما يسمى روح العصر ليس فى حقيقته إلا تراكما لأوضاع وأعراف نمت فى غيبة الاسلام وعلى حساب مبادئه.. ولا يجوز ــ بحال من الأحوال ــ أن تكون معيارا تُحاكمُ إليه نصوص الإسلام ومبادئه.

إن الشريعة هى المعيار والحجة على كل عصر.. وليست العصور حجة ولا معيارا لها، فالشريعة حاكمة على أهواء الناس ولا يجوز أن تكون محكومة بتلك الأهواء أو تابعة لها.

● ويترتب على ما سبق أن جميع أحكام الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق فورا وأنه لا يجوز التدرج فى تطبيقها بعد عهد النبوة وبعد أن أكمل الله الدين وكشف بالنصوص عن حكم الله فى كل مشكلة.. والقول بالتدرج ــ فى منطق هذا الرأى ــ ترخص يمليه الضعف، وتحايل تأباه النصوص.

هذا هو الموقف الأول، واضح لا لبس فيه، له منطقه ونتائجه الطبيعية المتمشية مع هذا المنطق.

● الموقف الثانى:

يرى أصحاب هذا الموقف الثانى أن الدين فى جوهره دعوة للعقيدة الخالصة وللأخلاق الفاضلة ولإقامة التنظيمات العادلة التى صحبتها توجيهات عامة لتنظيم المجتمع عن طريق التشريع، ضربت لها الأمثلة فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومارسها المسلمون ممارسات متعددة ومختلفة فيما بينهم خلال عصور التاريخ الإسلامى المتعاقبة.

وهم لا يرون فى هذه الممارسات إلا أنها اجتهادات بشرية مشكورة ومحمودة وأنها تستحق لذلك أن تستأنس بها الاجيال اللاحقة دون أن تقف بالضرورة عندها، أو تلزم نفسها بها إلزاما حرفيا جامدا بنصوصها وذلك كله بشرط ألا يخالف الاجتهاد نصا قطعى الدلالة قطعى الثبوت.

ويضيف أصحاب هذا الموقف ــ فوق ذلك ــ أن الدين قد تضمن دعوة عامة لاستعمال العقول وتقليب الأبصار فى الكون وفى التاريخ، وفى النفس.. وأن هذه العقول قادرة فى نظر الشارع على اكتشاف مواضع المصلحة، وأنها لذلك مطالبة بأن تعمل على تحقيق هذا الاكتشاف عن طريق الاجتهاد الفقهى الذى أشار إليه حديث معاذ بن جبل حين ولاه النبى قضاء اليمن وسأله عما يفعل إذا عرض له قضاء ولم يجد فى كتاب الله وسنة رسوله نصا قطعيا يقضى بمقتضاه فى خصوص النزاع المرفوع إليه فقال معاذ: «أجتهد رأيى ولا آلو» ــ أى لا أقصِّر ــ فأقره النبى صراحة على هذا المنهج بعبارته المشهورة: «الحمدلله الذى وفق رسول رسول الله لما يُرضى الله ورسوله»، وهو حديث تلقاه علماء الأمة بالقبول على امتداد العصور.

كما يرى أصحاب هذا الراى أن الوقوف المطلق عند النصوص الجزئية ومحاولة تطبيقها تطبيقا حرفيا على الواقع المتجدد منهج يصطدم بأصلين لا يمكن التضحية بهما.

الأصل الأول:

أن الدين ــ بنصوصه التشريعية ــ جاء رحمة للعالمين، وهو لا يكون رحمة إلا إذا استجاب لحاجات الناس وحققَ مصالحِهم، والنصوص التشريعية التفصيلية قد كانت استجابة واضحة لحاجات الناس حين نزلت لأنها واجهت مشاكلهم كما كانت يوم نزلت.. فإذا تغيرت المشاكل وتبدلت الأوضاع كان لابد أن تتغير الأحكام وأن تتطور استجابة لسنة الله فى الكون كله وهو ما يسميه علماء الأصول «اختلاف الفتوى باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال».

الأصل الثانى:

أن النصوص ــ مهما تعددت ــ فإنها تظل محدودة بالقياس إلى المشاكل المتجددة.. والسوابق الثابتة من عهد النبوة وعهد صدر الإسلام مهما تعددت كذلك فهى محدودة العدد، بالقياس إلى ما يطرأ من أوضاع جديدة ومشاكل لم تكن تواجه الناس فى العصر الأول.. وإذا كان المشرع نفسه قد وكل إلى العقل مهمة مواجهة هذه المشاكل الجديدة.. فمعنى هذا أن العقل مؤتمن، وأنه قادر على اكتشاف مواضع المصلحة.. وبذلك تكون النصوص الجزئية «قرائن»على تحقيق المصالح، وتكون السوابق «ممارسات» فى طلب هذه المصالح، ينفتح الباب معها لإعمال العقول فى أمور التشريع.

وفوق ذلك كله يرى أصحاب هذا الموقف أن العالم من حولنا ملىء بالتجارب الإنسانية التى تم رصدها وتحليلها، والتى استعين فى فهمها وتقييمها كل بما وصلت إليه العلوم الحديثة فى ميادين الدراسات الاجتماعية، فالأنظمة السياسية والاقتصادية والمعاملات التجارية المختلفة، والجرائم وعقوباتها.. وكلها أمور يتناولها التشريع الإسلامى، لم تعد رموزا غامضة ولا خفية، وإنما صارت سِجِّلا إنسانيا موثقا لا يملك مشرع أو فقيه مجتهد معاصر أن يسقطه من حسابه.. وإذا كانت القاعدة الإسلامية أن الحكمة ضالة المؤمن، فلا حرج على المسلمين أن يستعينوا فى أمورهم التشريعية بكل تجربة إنسانية ولو كانت تجربة تاريخية أو معاصرة ظهرت واكتملت فى مجتمعات بعضها مسلم وبعضها غير مسلم.

هذان هما الموقفان، وهاتان هما المدرستان.. فأين نقف منهما؟ وكيف يمكن أن يتحرك المجتمع المصرى بقضية تطبيق الشريعة الإسلامية دون أن يعوق حركته الشد والجذب المتبادلان بين أطراف هذين المنهجين؟

●الموقف الثالث:

نحن من جانبنا نرى أن فى كل من الموقفين السابقين جانبا من الحقيقة يستحق أن نأخذ به وندعو إليه وأن الجمع بينهما جمع بين الحسنيين، يتحقق به معنى «الطاعة لله» تحققا مبصرا حين يكتمل معنى «الطاعة» بمعنى «الاستبصار» بمواقع المصلحة، وعناصر الاستجابة الواعية لما يطرأ على مجتمعات الناس والشعوب من تغير لا يتوقف.. وهو تغير يدخل فى عموم سنة الله «ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا» وهذه الاستجابة تتمثل فى تحقيق التوافق والانسجام بين «شريعة الإسلام» المتمثلة فى النصوص القرآنية والنبوية وفى سيرة النبى.. ونعمة قبول الاسلام المتمثلة فى استخدام العقول وقدح زناد الاجتهاد وهما نعمتان متكاملتان «وفى كلٍ خير».

ومعنى ذلك كله أن المسلم لا يكون مسلما إلا إذا اختار الالتزام بشريعة الإسلام، وأيقن أن ما ثبت عن الله تعالى أو عن نبيه هو المصلحة بعينها، والرحمة كلها، والعدل كله وإلا إذا أدرك الفارق الجوهرى بين أحكام البشر وحكم الله.. فالبشر ــ كل البشر يؤخذ من كلامهم ويترك، ويقبل من آرائهم ويرفض، ويناقشون فيما يقولون ويفعلون.. والتسليم لهم ــ بغير مناقشة ذل وعبودية، وإهدار لنعمة العقل وتقاعس عن واجب الاجتهاد والبحث.

أما حكم الله تعالى وحكم رسوله، فالإيمان بهما رسوخ فى العلم، والاستقامة على أمرهما مدخل لكل خير.. والمسلم ــ مع ذلك كله ــ يعرف أن النصوص لم تتناول بالتفصيل كل شىء، وأن الله تعالى بيَّن حكمه فى أشياء وسكت ــ رحمة بنا ــ عن أشياء.. وهذا المنهج فى التشريع تفويض لنا بالاجتهاد، ودعوة إلى استعمال العقول، واستجلاء وجوه المصالح، والمفاضلة بين الحلول والبدائل.

وممارسة هذا الاجتهاد ليست كما يتوهم البعض عدوانا على النصوص بل هى التزام بها، وبالأصول والمبادئ الكلية التى تحكم تشريع الإسلام.. وهو يعرف كذلك أن النصوص الإسلامية حين تناولت أمور التشريع المختلفة تناولت بعضها بالتفصيل الشامل والتحديد الذى لا يترك مجالا لتأويل أو اجتهاد.. وتناولت بعضها الآخر بالعموم والإجمال، حتى يتسع للناس ــ من بعد ــ مجال الاختيار بين الحلول المختلفة التى تدخل فى نطاق ذلك العموم وفى إطار هذا الإجمال.. وهو لذلك يعرف أن للعقول سبيلا مع هذا النوع الثانى من النصوص.. والمسلم المعاصر حين يدعو فى إيمان وحماس لتطبيق الشريعة الاسلامية فإنه يفعل ذلك وبين عينيه الحرص على الالتزام الكامل بالنصوص، والاستعداد التام لممارسة الاجتهاد فيما لم تتناوله النصوص.. أو تناولته بالعموم والإجمال، وهو لا يرى فى هذين المسلكين تناقضا ولا تعارضا، بل يرى فيهما وجهين لحقيقة واحدة هما الالتزام بالإسلام فى نصوصه الصريحة وفى دعوته الواضحة لاستعمال العقول عند تطبيق هذه النصوص على الوقائع المجتمعية المتجددة.

وأصحاب هذا المنهج الأخير، يحتاجون ونحتاج جميعا معهم ــ فيما أرى إلى تذكير الفريقين جميعا بأمور أربعة أساسية من شأنها أن تعين على وضع الجهد المبذول لتطبيق الشريعة الإسلامية فى أيامنا هذه موضعه الصحيح.

الأمر الأول:

أن من الخطأ العلمى الفادح محاولة الفصل بين أى حكم تشريعى وبين أصوله الحضارية والفكرية، ذلك أن التشريع فى جوهره يصدر حين يصدر حاملا فى ثناياه مفاضلة بين القيم، وتوفيقا أو ترجيحا بين المصالح المتعارضة، واختيارا لواحد من الحلول البديلة التى يطرحها الواقع لمعالجة مشكلة من المشاكل، ثم هو فى النهاية تقنين لهذا الاختيار وتثبيت له بإضفاء حماية الدولة عليه ووقوفها بسلطانها إلى جواره.. ومادام لكل حضارة نظام القيم الخاص بها وما يترتب عليه من ترتيب للمصالح وأولوياتها، فإن «الاختيار التشريعى»، لابد أن يصدر فى إطار نظام القيم والمصالح الذى تتبناه تلك الحضارة.

الأمر الثانى:

أن الشريعة غير الفقه كما أن الدين غير التدين فالشريعة هى مجموع أحكام الله تعالى الثابتة عنه وعن نبيه عليه الصلاة والسلام والتى تنظم أفعال الناس.. ومصدرها كتاب الله سبحانه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. أما الفقه فهو عمل الرجال فى الشريعة استخلاصا لأحكامها وتفسيرا لنصوصها وقياسا على تلك النصوص فيما لم يرد فيه النص وطلبا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال بحق.. فإن الفقه محكوم بكل ما يحكم عمل الرجال وسلوكهم فى الجماعة.

والطاعة الواجبة على المسلم إنما هى طاعة الشريعة.. وليست طاعة الفقه ورجاله..

ولذلك كان أبوحنيفة رضى الله عنه يقول إن «الأمر إذا جاء عن الله تعالى أو عن نبيه عليه الصلاة والسلام فهو على العين والرأس.. وإذا جاء عن الصحابة فاختلفوا فيه اخترنا من آرائهم، لأنهم بصحبتهم للنبى عليه الصلاة والسلام وأخذهم عنه لن يفوتهم الحق مجتمعين، ولن يخرج عن آرائهم مختلفين.. أما إذا انتهى الأمر إلى فقه التابعين وتابعى التابعين فقد كان رضى الله عنه يجتهد كما اجتهدوا، ويقول: «هم رجال ونحن رجال».

إن هذه التفرقة الأساسية حين تستقر وتحدد خطوطها كفيلة بأن تذوب حدة الكثير من الخلافات القائمة.. وأن تبدد كثيرا من الهواجس والظنون السيئة المتبادلة فلا يعذر أحد فى خروجه متعمدا على الشريعة أو رفضه لها.. ولا يلام أحد إذا اجتهد فخالف اجتهاده اجتهاد الفقهاء.. أو كان له ــ فيما ذهبوا إليه ــ رأى جديد.

إن الذين يضعون الفقه والشريعة فى إطار واحد يصفونه كله بأنه «التشريع الإسلامى» الذى لابد من تطبيقه بحذافيره وحروفه وتفاصيله الجزئية كلها، يرتكبون خطأ فادحا فى حق الإسلام وفى حق الناس.. فهم يدخلون على الإسلام ما ليس منه.. ويلزمون الناس بما لا يلزم، ويفرضون عليهم من الحرج ما لم يأذن به الله، خروجا على قوله تعالى «هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج»، وقوله «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، وهو حرج وصل ــ فى بعض صوره ــ  إلى المدى الذى يصفه ابن القيم بقوله «فلما رأى الناس أن حياتهم لا تستقيم إلا بشىء وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا شرا طويلا وفسادا عريضا، وأعرض بعضهم عن جملة الشريعة».

الأمر الثالث:

أن مجال الاجتهاد فى التشريع مجال واسع وكبير، لأن ما لم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلى ما تناولته وليس ذلك ــ كما يتوهم البعض ــ قدحا فى الشريعة ولا هو نيل من قوله تعالى «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء».. بل هو آية الحكمة ودليل الكمال فى شرع الله تعالى الذى «خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه» والذى يعلم ــ وله المثل الأعلى ــ أن العالم يتطور، وأن أشكال الحياة ومشاكل الناس تتبدى فى قوالب جديدة.. لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة فى الكون والمجتمع أودع نعمة العقل فى الرءوس ليلاقى شِرعة الحركة بمثلها وليستجيب للتطور فى الحياة بتطوير فى الاحكام، وهذا هو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها.

إن من حق بعض الناس أن يعجزوا عن رؤية الدنيا وهى تدور وتتغير، ولكن ليس من حقهم أن ينكروا هذه الرؤية على من أمكنه الله منها وليس من لم ير حجة على من رأى. ولا الجاهلُ حجة على العالم، والذين يرفضون أن ينظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ويتصورون أن من حقهم أن يضربوا بين المسلمين وبين سائر شعوب العالم بسور غير ذى باب، أو يتخيلوا أن المسلمين يستطيعون أن يقيموا مجتمعهم على صورة نماذج المجتمعات الانسانية التى قامت منذ مئات السنين.. وأن يستغنوا بذلك عن الاجتهاد من جديد، أولئك يحرثون فى البحر، ويطلبون غير مطلب.. ولن تتوقف الحياة لتناقش خيالهم.. وإنما المسلم الحق من تعلق قلبه بالله وارتبط هواه بشرع الله، ثم هو يمسك ــ فى ذلك كله ــ بزمام الحياة، يتحرك بها وتتحرك به.. ويزكى ــ بعمله وجهده وسعيه المشكور ــ أصولَ الخير التى بذر الإسلام بذرتها الأولى لتنمو شجرتها، وتتعدد ازهارها، وليرتفع من «أصلها الثابت» «فرعها فى السماء».

الأمر الرابع:

أن الواقع المجتمعى يظل دائما هو الأساس المادى لكل نشاط تشريعى أو فقهى ومعنى ذلك أن جزءا كبيرا من الاجتهاد يجب أن يتجه إلى رصد الظواهر الاجتماعية وفهمها وتحليلها وتصور الحلول التشريعية المختلفة التى يمكن أن تتعامل معها وتحليل النتائج العملية التى تترتب على كل اختيار فقهى مطروح.. ذلك أن التشريع ليس نظرا فلسفيا ولا هو رياضة عقلية، وإنما هو رعاية لمصالح الناس بسلطان الحكم، ولذلك قال الإمام الشاطبى بحق: «إن تكاليف الشريعة ترجع كلها إلى تحقيق مقاصدها فى الخلق».

وهل يبقى بعد هذا المنهج السليم موضع ــ أى موضع ــ للمزايدة على إمام تقى جليل كالإمام الشافعى الذى كان له فقه واجتهاد فى العراق وفقه واجتهاد مختلف فى مصر.. تعبيرا عقليا وإيمانيا رشيدا عن أصل الأصول، وجوهر المقاصد فى الاجتهاد العقلى والنظر بعين البصيرة إلى أوضاع الناس المتغيرة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال؟

وحين يمارس الاجتهاد وتعرض على المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة الاسلامية وتتسع لها مبادئها ونصوصها القطعية فإن الاختيار لابد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعى وتحليل حركته، ولذلك وجب أن يستقر فى ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهى الخالص لابد أن يتممه عمل اجتماعى واسع، حتى تأتى ثمرته رحمة حقيقية للناس ومخرجا لهم من الضيق، ورفعا للحرج، وتحقيقا لمصالحهم على اختلافها.

رأي المدون :
مقالة د . كمال أبو المجد من أطول المقالات التي قرأتها وأعجبتني لما إستعرضه الدكتور من قدره فائقه على التحليل والعرض لوجهات النظر ثم إبداء الرأي
إنني مسلم وسطي وإنني أؤيد بشده الأراء الحكيمة لعدة أسباب وهي :
أولا : إن أسهل طريق للإنسان البسيط الذي لا يريد أن يفكر أن يختار طريق التكفير للأخر وذلك لضيق أفقه وقدرته الضعيفه على التفكير والتأمل.
ثانيا : إن الله سبحانه وتعالىأمرنا أن نفكر ونتأمل في قوله تعالي "﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ سورة أل عمران" صدق الله العظيم 
وهذه دعوه صريحه لإستعمال العقل.
ثالثا : إن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن ينفذ شريعته في منع الخمر وهو من خلق البشر ويعرف جيدا طباعهم لم يفرض هذا الأمر مرة واحده بل إستخدم أسلوب التدريج في التنفيذ حتى وصل إلى المنع .
رابعا : أن سيدنا عمر بن الخطاب في عام المجاعه أسقط ( حد قطع يد السارق ) ولم يستطع أحد أن يدعي إنه خالف أمر الله في عدم تنفيذ شريعته مع إسقاطه حد من حدود الله سبحانه وتعالى.
خامسا : التفريق ما بين الشريعه والفقه أمر واجب وضروري فليس كل ما هو قائم الأن في مجتمعنا كان موجودا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهناك أمور إجتهد فيها الأئمة من قبل عندما لم يجدوا لها مكان في القرآن أو السنه ولم يتهمهم أحد بأنهم خرجوا عن الشريعه وبإستخدام عده مبادئ وإجتهادات شخصيه يمكن أن توجه في أي زمان أخر مثل زماننا الذي نحتاج بشده أن نستخدم فيه عقلنا وشريعتنا لكي نحكم بصدق على مواقف كثيره مستجده.
سادسا : لا نستطيع أن نفرض تطبيق الشريعه على كامل أفراد مجتمعنا المصري من مسلمين وأقباط فيجب أن تكون هناك الحريه للأقباط في أن لا تطبق عليهم الشريعه الاسلاميه.
وأختتم تأيدي للدكتور كمال أبو المجد بالجزء الذي قال فيه "إن الذين يضعون الفقه والشريعة فى إطار واحد يصفونه كله بأنه «التشريع الإسلامى» الذى لابد من تطبيقه بحذافيره وحروفه وتفاصيله الجزئية كلها، يرتكبون خطأ فادحا فى حق الإسلام وفى حق الناس.. فهم يدخلون على الإسلام ما ليس منه.. ويلزمون الناس بما لا يلزم،" ثم أضاف " أن مجال الاجتهاد فى التشريع مجال واسع وكبير، لأن ما لم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلى ما تناولته وليس ذلك ــ كما يتوهم البعض ــ قدحا فى الشريعة ولا هو نيل من قوله تعالى «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء».. بل هو آية الحكمة ودليل الكمال فى شرع الله تعالى الذى «خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه» والذى يعلم ــ وله المثل الأعلى ــ أن العالم يتطور، وأن أشكال الحياة ومشاكل الناس تتبدى فى قوالب جديدة.. لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة فى الكون والمجتمع أودع نعمة العقل فى الرءوس ليلاقى شِرعة الحركة بمثلها وليستجيب للتطور فى الحياة بتطوير فى الاحكام، وهذا هو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها. ".
إن القيمة العليا الكبرى لمبادئ الشريعه إنها تغتح باب الاستجابه الواعده الراشده لرعايه المصالح المتجدده للناس .
إن قرائة هذ المقال وإستيعابه هام جدا للجميع من جميع الاطياف حتى تتجنب الاصطدام القادم لامحاله ( بين القوى الموجوده على الساحة) الذي أعتقد إنه سوف يحدث لعدم وضوح هذه الرؤيه للكثيرين الذين لا يريدون أن يستخدموا عقولهم .


التاريخ يسجل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق