شريط البيبي سي

الثلاثاء، 7 يونيو 2011

ماتت


  بقلم   د. أيمن الجندى    ٦/ ٦/ ٢٠١١
انقضت أيام العزاء الثلاثة، وساد الصمت البليغ البيت، وأُوصد الباب خلف آخر المعزين. يُخيل إليه أن اتفاقاً غير مكتوب يقضى بكثرة المُعزّين عند حدوث الموت حتى لا يجد أهل الميت الوقت الكافى للتفكير، بعدها يذهب كلٌ إلى حال سبيله ويتركونه للذكريات.

نظر فى إشفاق إلى فوضى البيت. لو كانت موجودة لانهمكت فوراً فى التنظيف والترتيب. لم تكن تحتمل أن تترك القذارة ولو لساعات الليل. كان البيت ينطق بحسن التنسيق، ويفوح بعطر النظافة والانتعاش! أشياء كثيرة ستتغير فى حياته منذ ذلك اليوم.
ماتت! يعترف الآن بأنه لاحظ لهاثها حين رقدت جواره على السرير. يعترف أيضا بأنه لم يسألها لأنه كان يريد النوم! لكنه حين سمع صوت حشرجتها بدأ يشعر بالذعر. ناداها فلم ترد. كانت تسمعه وتقدر على إجابته وبرغم ذلك لم ترد. أضاء النور فوجد فى عينيها عكارة النهاية وأيقن أنها تموت. أصابه رعب مميت وخُيل إليه أن قلبه سيتوقف. أشياء كثيرة سوف يعترف بها لنفسه فى الأيام المقبلة. منها على سبيل المثال أنه حين حاول مد يد المساعدة إليها انتفضت فى نفور. وبدا أنها تبذل مجهودا هائلا لتمنعه. كانت تموت وتعلم أنها تموت وبرغم ذلك لم تقبل مساعدته. هذه أشياء لا تُحكى قطعاً للآخرين.
................
يتجول فى أرجاء البيت الخالى. يفتح الغرف غرفةً بعد غرفة. يشاهد آثارها فى كل مكان. فليعترف بأن جداراً من الصمت ارتفع بينهما منذ سنين. فليعترف بأنه آذاها كثيراً. لا يدرى الآن أى شيطان تملكه لكن أوان الإصلاح قد فات فى جميع الأحوال. فليعترف أيضا بأنها كانت صابرة وصامتة وحَمُولة. تُصرّف شؤونها بنفسها ولا تثقل عليه بمطالبها أو تحمّله ما لا يطيق! فليعترف بأنها لم تطالبه بشىء قطّ وكانت تنفق على نفسها من جيبها الخاص. فليعترف وليعترف وليعترف. لكن ما فائدة الاعتراف الآن؟!
أنانى! هذا ما كان يعرفه عن نفسه ولا يعترف به. يذكر أنه فى الماضى استمات من أجل الزواج بها، فما الذى غيّره وجعله يزهدها ويتعمد إيذاءها بقارص الكلمات. كان يحاول أن ينقل إليها إحساسه بعدم الرضا، وأنها كبرت وترهلت ولم تعد تروق فى عينيه. كان يتعمد أن يتطلع أمامها إلى بنات العشرينيات، ويتمنى الوصال بهن أو حتى نظرة رضا. وكانت تنكفئ داخل نفسها وتمعن فى الصمت! وشجعه الصمت على مزيد من الإيلام. وظلت هى مُترفعة عن الرد، معتصمة بالصمت البليغ! صابرة وحساسة وذات كبرياء.
..............
هل هو نادم؟ هل لو عاد العمر لن يكرر الأخطاء؟ هذه أسئلة لا يعرف جوابها. لكن المؤكد أنه حين وقف يرمق صورته فى المرآة شاهد نفسه منطفئاً، مُتقدماً فى العمر، قد هدّه المرض وخطه الشيب، وفقد كل نضارة وبهاء. يعرف الآن أن أيامه الصعبة قادمة! وأن خريفاً طويلاً ينتظره، وأنه حين يقع، وقريباً ما سيقع، لن يجد من تعتنى به أو تمنحه شربة ماء.

رأي المدون :

أعجبني جدا العمود
حقا.... لا نعرف قيمة من نعيش معهم إلا بعد أن نفقدهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق