شريط البيبي سي

الاثنين، 7 مارس 2011

خزى الدنيا د. محمود خليل ( المصري اليوم )

خزى الدنيا
  بقلم   د. محمود خليل    ٦/ ٣/ ٢٠١١ ( المصري اليوم )

تخيل معى ذلك المشهد: الرئيس المخلوع مبارك يرتدى بزة (بدلة) السجن البيضاء، وإلى جواره يجلس نجلاه جمال وعلاء مبارك. الانكسار يكسو وجه الأب والوجوم يعلو وجهى ابنيه، وأمام شاشات التليفزيون يجلس المشاهدون فى غاية الإثارة والدهشة، ويفرك كل منهم عينيه حتى يتأكد أن من يعاينهم على الشاشة هم هؤلاء الأشخاص، الذين ظنوا أنهم قادرون على خرق الأرض، وبلوغ الجبال طولاً. من المؤكد أن هذا المشهد سوف يرسخ فى عقل ووجدان المصريين أكثر من غيره. نعم اندهش الناس وهم يرون العادلى وعز وجرانة والمغربى فى ملابس المساجين، فغرت أفواههم وهم يرون ضباط شرطة صغاراً يجرجرون وزير الداخلية السابق داخل عربة الترحيلات، لكن المشهد القادم سوف يكون أكثر إثارة وأشد قدرة على الإدهاش، إنه الرئيس الذى لم تر الأجيال، التى ثارت ضده، غيره، وظنوا فى لحظات يأس أن العمر ماضٍ بهم دون أن يعاصروا تغييره، وإلى جواره يجلس الوريث، الذى ظن أن بر المحروسة دان له وأنها عروس تستعد لتسليم نفسها مرغمة إليه.
ذلك هو خزى الدنيا، الذى يذيقه الله تعالى لمن يتعالى على عباده، ويتوهم أنه امتلك ناصية الحياة، وسيطر على مقادير البشر، ويظن آثماً أن بيده مقاليد الأمور يحكم فيها كيف شاء وأنى شاء. فهذا الصنف من البشر هو الذى يغرق فى بحر الخزى كما يشير القرآن الكريم «فأذاقهم الله الخزى فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون»، ومن اللافت أن هذه الآية الكريمة (رقم ٩ من سورة الحج) جاءت عقب عدد من الآيات التى تعالج مجموعة السمات والخصائص التى تؤدى بالفرد إلى الوقوع فى مستنقع الخزى، وتتمثل فى: الجدل بغير علم، وتضليل البشر، والتشكيك فى الخضوع لأى نوع من الحساب، والإيمان بثبات أحوال الحياة، وعدم تقلبها، وعدم الالتفات إلى مراحل التحول، التى خضع لها فى الحياة منذ أن كان طفلاً حتى بلغ أرذل العمر!.
وتكاد هذه السمات التى حددها القرآن الكريم تنطبق على الرئيس المخلوع قسراً ووريثه خائب الرجاء، كما تنطبق أيضاً على جميع المغرورين من أفراد عائلات الرئاسة داخل العالم العربى. فالجدل الجاهل سمة من سمات المستبدين فى كل عصر وحين، ويبقى أن المجادل بغير علم من أشد الشخصيات عناداً وإحساساً بالكبر والغرور، ومن يسترجع الطريقة التى تعامل بها حسنى مبارك مع شعبه على مدار ثلاثين عاماً يلاحظ هذا القدر من العناد، الذى ميز أداءه فى التمسك بوزراء لا يرضى عنهم الناس والإطاحة بالوزراء الذين تمتعوا بشعبية لديهم، وقد ظل الرئيس يعاند شعبه، الذى أراد خلعه حتى آخر نفس، والتمس فى هذا السبيل كل الحيل التى يمكن أن يعتمد عليها المجادل بغير علم من أجل إثناء الشباب عن هذا المطلب، بل تعامى عن رؤية الملايين، التى نزلت إلى الشارع تطالب بإسقاطه، فالمجادل العنيد بطىء الفهم، ضيق الأفق، معدوم الخيال، عاجز عن النظر خارج ذاته.
أما السمة الثانية المتمثلة فى تضليل البشر، فظهرت فى ذلك الحرص- من جانب المخلوع ونظامه- على توظيف آلة الإعلام الرسمى فى تزييف وعى الشعب المصرى عبر عقود متوالية، وليس أدل على هذا من ذلك الوهم الكاذب، الذى رسخه إعلام النظام البائد من أن مصر بلد فقير، وقد ظل الشعب نائماً قائماً على هذا الوهم حتى استيقظ صباح نجاح الثورة على تلك المئات من المليارات، التى يملكها الرئيس وأفراد عائلته، ويرتع فيها أيضاً مئات المسؤولين، ورجال الأعمال، وعناصر النظام الفاسد الذى صنعه الرئيس المخلوع على عينه، بالإضافة إلى ملايين الجنيهات التى تدفع كرواتب لمئات الألوف من الأشخاص، الذين تولوا مهمة تثبيت أركان النظام الظالم داخل مؤسسات الدولة المختلفة، فى الوقت الذى لم يكن يمل فيه الرئيس وإعلامه الكاذب المضلل من تكرار تلك «الطقطوقة»، التى يقول مطلعها «نجيب لكم منين؟» فى مواجهة من يطالب من أبناء الشعب بحقوقه المعيشية!.
نأتى بعد ذلك إلى السمة الأخيرة، التى تميز تلك الشخصيات التى يذيقها الله «خزى الدنيا»، والمتمثلة فى الثقة فى القدرة على الإفلات من الحساب، وترتبط هذه السمة ببعض الأفراد الذين يسيطر عليهم شعور بأن أحوال الحياة ثابتة لا تتغير، وأن الدنيا تدين لهم فى كل الأوقات، وأن الزمن الذى يتقلب بغيرهم يعجز عن إملاء قوانينه فى التغير عليهم. وتتسم هذه الشخصيات أيضاً بنسيان الموت كحقيقة حتمية لا يستطيع أن يكابر فيها مكابر، لأنهم يسقطون فكرة مرور الزمن من حساباتهم، ومن الصعب أن نتوقع أن أى شخص من الذين أفسدوا حياتنا على مدار العقود الثلاثة الماضية بداية من الرئيس وحتى أصغر مسؤول كان يرد على باله أنه سوف يموت فى لحظة، وسوف يحاسب بعد موته على ما اقترفه فى حياته من جرائم وآثام، وسوف يعاقب عليها. فلو أن هذه الفكرة كانت ترد على خاطر أى منهم لعلم أنه محاسب على ما يُفسد، ولتردد كثيراً قبل أن يُقْدم على ذلك، لكن طول العمر كان يغريهم بمواصلة الغى ظناً منهم أنهم ناجون من العقاب.
هكذا تتكامل السمات فى الشخصيات التى أراد لها الله الخزى فى الدنيا ليتشكل المشهد، الذى سوف يجمع قريباً الرئيس المخلوع وأبناءه فى زنزانة بسجن مزرعة «طرة»، يتجاور فيها قادة الفساد مع وزرائهم ورجال أعمالهم بصورة تدعو إلى التأمل والتوقف أمام آيات الله فى كونه، ولتؤكد حقيقة الملك الزائل والظلم الآفل، «والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا».
 لقد ملك «المخلوع» وعائلته الدنيا بالأمس، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم الأمنية والإعلامية من الله «فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا» وجاءتهم الضربة من جانب شباب الـ«فيس بوك»، الذين كانوا يستتفهونهم ويسخرون مما يقومون به حتى استيقظوا على صرختهم المدوية بميدان التحرير. تلك الصرخة التى زلزلت الأرض من تحتهم وأزالتهم عن عروشهم، وألقت بهم فى غياهب السجون.. فاعتبروا يا أولى الألباب!.

رآيي الشخصي
أحسن تعليق هو كلام الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }
                                    صدق الله العظيم﴿الشعراء: ٢٢٧﴾
التاريخ يسجل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق